يقول تعالى مخبرًا عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران ، صلوات الله وسلامه عليه ، حين ناداه من جانب الطور الأيمن ، وكلمه وناجاه ، وأرسله واصطفاه ، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه ؛ ولهذا قال : { أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه ، كما قال في سورة طه : { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [ طه : 25 - 36 ] .
{ قوم فرعون } بدل من الأول أو عطف بيان له ، ولعل الاقتصار على القوم للعلم بأن فرعون كان أولى بذلك ، { ألا يتقون } استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار تعجيبا له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه ، وقرئ بالتاء على الالتفات إليهم زجرا لهم وغضبا عليهم ، وهم وإن كان غبيا حينئذ أجروا مجرى الحاضرين في كلام المرسل إليهم من حيث إنه مبلغه إليهم وإسماعه مبدأ إسماعهم ، مع ما فيه من مزيد الحث على التقوى لمن تدبره وتأمل مورده ، وقرئ بكسر النون اكتفاء بها عن ياء الإضافة ، ويحتمل أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون كقوله : ألا يا اسجدوا .
ثم عقب ذلك بذكر وصفهم الذاتي بطريقة البيانِ من القوم الظالمين وهو قوله : { قوم فرعون } ، وفي تكرير كلمة { قوم } موقع من التأكيد فلم يقل : ائت قوم فرعون الظالمين ، كقول جرير :
يا تيم تيمَ عدي لا أبا لكم *** لا يُلْفينَّكُمُ في سَوْأة عُمَرُ
والظلم يعم أنواعه ، فمنها ظلمهم أنفسهم بعبادة ما لا يستحق العبادة ، ومنها ظلمهم الناسَ حقوقهم إذ استعبدوا بني إسرائيل واضطهدوهم ، وتقدم استعماله في المعنيين مراراً في ضد العدل { ومن أظلم مِمّن مَّنَع مساجدَ اللَّه } في البقرة ( 114 ) ، وبمعنى الشرك في قوله : { الذين آمنوا ولم يلبِسوا إيمانهم بظلم } في الأنعام ( 82 ) .
واعلم أنه قد عدل هنا عن ذكر ما ابتدىء به نداء موسى مما هو في سورة طه ( 12 23 ) بقوله : { إني أنا ربّك فاخلَع نعليك } إلى قوله : لنُريَكَ من آياتنا الكبرى لأن المقام هنا يقتضي الاقتصار على ما هو شرح دعوة قوم فرعون وإعراضهم للاتّعَاظ بعاقبتهم . وأما مقام ما في سورة طه فلبيان كرامة موسى عند ربّه ورسالته معاً فكان مقام إطناب مع ما في ذلك من اختلاف الأسلوب في حكاية القصة الواحدة كما تقدم في المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير .
والإتيان المأمور به هو ذهابه لتبليغ الرسالة إليهم . وهذا إيجاز يبيّنه قوله : { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين } [ الشعراء : 16 ] إلى آخره .
وجملة : { ألا يتقون } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لمّا أمره بالإتيان إليهم لدعوتهم ووصَفَهَم بالظالمين كان الكلام مثيراً لسؤالٍ في نفس موسى عن مَدى ظلمهم فجيء بما يدل على توغّلهم في الظلم ودوامهم عليه تقوية للباعث لِموسى على بلوغ الغاية في الدعوة وتهيئة لتلقِّيه تكذيبَهم بدون مفاجأة ، فيكون { ألا } من قوله : { ألا يتقون } مركباً من حرفين همزة الاستفهام و ( لا ) النافية . والاستفهام لإنكار انتفاء تقواهم ، وتعجيب موسى من ذلك ، فإن موسى كان مطّلعاً على أحوالهم إذ كان قد نشأ فيهم وقد عَلم مظالمهم وأعظمها الإشراك وقتلُ أنبياء بني إسرائيل . . . .
ويجوز أن يكون { ألا } كلمةً واحدة هي أداة العرض والتحضيض فتكون جملة : { ألا يتقون } بياناً لجملة { ائت } . والمعنى : قل لهم : ألا تتقون . فحكى مقالته بمعناها لا بلفظها . وذلك واسع في حكاية القول كما في قوله تعالى : { ما قلتُ لهم إلاَّ ما أمرتني به أن اعبُدُوا الله ربّي وربّكم } [ المائدة : 117 ] فإن جملة : { أن اعبُدوا الله } مفسرة لجملة { أمرتني } . وإنما أمره الله أن يعبدوا الله ربّ موسى وربهم ، فحكى ما أمره الله به بالمعنى . وهذا العرض نظير قوله في سورة النازعات ( 18 ) { فقل هل لك إلى أن تزكّى }
والاتّقاء : الخوف والحذر ، وحذف متعلق فعل يتقون } لظهور أن المراد : ألا يتقون عواقب ظلمهم . وتقدم في قوله تعالى : { الذين عاهدتَ منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون } في سورة الأنفال ( 56 ) .
ويَعلم موسى من إجراء وصف الظلم وعدم التقوى على قوم فرعون في معرض أمره بالذهاب إليهم أن من أول ما يبدأ به دعوتَهم أن يدعوهم إلى ترك الظلم وإلى التقوى .
وذكر موسى تقدم عند قوله تعالى : { وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } في سورة البقرة ( 51 ) . وتقدمت ترجمة فرعون عند قوله تعالى : { إلى فرعون وملائه } في الأعراف ( 103 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... وقوله:"ألا يَتّقُونَ" يقول: ألا يتقون عقاب الله على كفرهم به. ومعنى الكلام: قوم فرعون فقل لهم: ألا يتقون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذ نادى ربك موسى} أي أمر ربك موسى، وأوحى {أن ائت القوم الظالمين} {قوم فرعون ألا يتقون} فيه دلالة أن موسى، صلوات الله عليه، كان مبعوثا مرسلا إلى فرعون وقومه...
وقوله تعالى: {قوم فرعون ألا يتقون} كأنه على الإضمار: {أن ائت القوم الظالمين} وقل لهم: {ألا يتقون}؟ ثم قوله تعالى: {ألا يتقون} يحتمل وجهين: أحدهما: {ألا يتقون} مخالفة أمر الله ونهيه. والثاني: ألا يتقون نقمة الله وعقوبته، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم بين: من القوم الموصوفون بهذه الصفة؟ بان قال "قوم فرعون "وهو عطف بيان، "ألا يتقون"... والتقوى مجانبة القبائح بفعل المحاسن: اتقى الله يتقيه اتقاء أي اتقى عقابه بطاعته بدلا عن معصيته، وأصله صرف الأمر بحاجز بين الصارف وبينه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم عطفهم عليهم عطف البيان، كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد: إن شاء ذاكرهم عبر عنهم بالقوم الظالمين، وإن شاء عبر بقوم فرعون. وقد استحقوا هذا الاسم من جهتين: من جهة ظلمهم أنفسهم بالكفر وشرارتهم، ومن جهة ظلمهم لبني إسرائيل باستعبادهم لهم... فإن قلت: بما تعلق قوله: ألا يتقون؟ قلت: هو كلام مستأنف أتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار، والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيباً لموسى من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله. ويحتمل أن يكون {أَلاَ يَتَّقُونَ} حالاً من الضمير في الظالمين، أي: يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان كأنه قيل: أي قوم؟ قال مبدلاً إشارة أن العبارتين مؤداهما واحد لأنهم عريقون في الظلم، لظلمهم أنفسهم بالكفر وغيره، وظلم بني إسرائيل وغيرهم من العباد: {قوم فرعون}. ولما كان المقصود بالرسالة تخويفهم من الله تعالى، وإعلامهم بجلاله، استأنف قوله معلماً بذلك في سياق الإنكار عليهم، والإيذان بشديد الغضب منهم، والتسجيل عليهم بالظلم، والتعجيب من حالهم في عظيم عسفهم فيه، وأنه قد طال إمهاله لهم وهم لا يزدادون إلا عتواً ولزوماً للموبقات: {ألا يتقون} أي يحصل منهم تقوى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ثم عقب ذلك بذكر وصفهم الذاتي بطريقة البيانِ من القوم الظالمين وهو قوله: {قوم فرعون}، وفي تكرير كلمة {قوم} موقع من التأكيد فلم يقل: ائت قوم فرعون الظالمين،...والظلم يعم أنواعه، فمنها ظلمهم أنفسهم بعبادة ما لا يستحق العبادة، ومنها ظلمهم الناسَ حقوقهم إذ استعبدوا بني إسرائيل واضطهدوهم، وتقدم استعماله في المعنيين مراراً في ضد العدل {ومن أظلم مِمّن مَّنَع مساجدَ اللَّه} في البقرة (114)، وبمعنى الشرك في قوله: {الذين آمنوا ولم يلبِسوا إيمانهم بظلم} في الأنعام (82)..
والإتيان المأمور به هو ذهابه لتبليغ الرسالة إليهم. وهذا إيجاز يبيّنه قوله: {فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين} [الشعراء: 16] إلى آخره. وجملة: {ألا يتقون} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه لمّا أمره بالإتيان إليهم لدعوتهم ووصَفَهَم بالظالمين كان الكلام مثيراً لسؤالٍ في نفس موسى عن مَدى ظلمهم فجيء بما يدل على توغّلهم في الظلم ودوامهم عليه تقوية للباعث لِموسى على بلوغ الغاية في الدعوة وتهيئة لتلقِّيه تكذيبَهم بدون مفاجأة، فيكون {ألا} من قوله: {ألا يتقون} مركباً من حرفين همزة الاستفهام و (لا) النافية. والاستفهام لإنكار انتفاء تقواهم، وتعجيب موسى من ذلك، فإن موسى كان مطّلعاً على أحوالهم إذ كان قد نشأ فيهم وقد عَلم مظالمهم وأعظمها الإشراك وقتلُ أنبياء بني إسرائيل...
ويجوز أن يكون {ألا} كلمةً واحدة هي أداة العرض والتحضيض فتكون جملة: {ألا يتقون} بياناً لجملة {ائت}. والمعنى: قل لهم: ألا تتقون. فحكى مقالته بمعناها لا بلفظها. وذلك واسع في حكاية القول كما في قوله تعالى: {ما قلتُ لهم إلاَّ ما أمرتني به أن اعبُدُوا الله ربّي وربّكم} [المائدة: 117] فإن جملة: {أن اعبُدوا الله} مفسرة لجملة {أمرتني}. وإنما أمره الله أن يعبدوا الله ربّ موسى وربهم، فحكى ما أمره الله به بالمعنى. وهذا العرض نظير قوله في سورة النازعات (18) {فقل هل لك إلى أن تزكّى}
والاتّقاء: الخوف والحذر، وحذف متعلق فعل يتقون} لظهور أن المراد: ألا يتقون عواقب ظلمهم. وتقدم في قوله تعالى: {الذين عاهدتَ منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون} في سورة الأنفال (56). ويَعلم موسى من إجراء وصف الظلم وعدم التقوى على قوم فرعون في معرض أمره بالذهاب إليهم أن من أول ما يبدأ به دعوتَهم أن يدعوهم إلى ترك الظلم وإلى التقوى. وذكر موسى تقدم عند قوله تعالى: {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} في سورة البقرة (51).
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وصفوا بالظلم، لأنهم هم الذين مكنوا فرعون من ظلمه، فكانوا ظالمين، لأنهم الذين أقاموه، وأيدوه، وطاوعوه، ومهدوا، وصاروا آلة طيعة لتنفيذ مظالمه، وإنه لا يسأل العامة عن ظلم الخاصة، حتى يروا الظلم فلا يستنكروه، وكذلك كان أهل مصر، وعبر عنهم بقوم فرعون لأنهم كانوا له تبعا، وقد فنى وجودهم في وجوده،
{أَلَا يَتَّقُونَ} هذه جملة مستأنفة دالة على أنهم لم يتقوا، وأفرطوا في اتباع فرعون، وكان إسرافهم على أنفسهم، إذ إنهم لما لم يستنكروا أوغل هو في الطغيان بمقدار إسرافهم في الخضوع، فرد الطغاة وقاية للأنفس، واتقاء لله، و (ألا) دالة على التحريض والحث على التقوى، وهنا التفات من الخطاب إلى الغيبة، للدلالة على الغضب عليهم، وهناك قراءة بالخطاب ألا تتقون، ويكون النص محرضا لهم على التقوى. وإن ذلك النص بعد فوات قرون، فيكون معناه أنهم كانوا في حال كان يجب أن يحرضوا فيها على التقوى، وأن موسى عليه السلام حرضهم عليها، ولم يتركهم لأنفسهم، وفي ذلك إشارة إلى أنه يجب أن يقمع كبراء قريش، وألا يستسلم الناس لهم، ويخنعوا لعبادة الأوثان. وهناك قراءة بكسر نون {أَلَا يَتَّقُونَ} وتكون منيبة عن ياء المتكلم، أي ألا تتقون الله رب العالمين.