ثم قال - تعالى - { وكذلك نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أى : ومثل هذا التفصيل البليغ نفصل لبنى آدم الآيات والدلائل ليستعملوا عقولهم ، ولعلهم يرجعون إلى فطرتهم وما استكن فيها من ميثاق ، وإلى خلقتهم وما كمن فيها من ناموس .
فالرجوع إلى الفطرة القويمة كفيل بغرس عقيدة التوحيد في القلوب ، وردها إلى بارئها الواحد القهار الذي فطرها على الحق ، وصرفها عن الجهل والتقليد .
هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآيات أمورا من أهمها :
1 - فساد التقليد في الدين ، وأنه - تعالى - قد أزاح العذر ، وأزال العلل بحيث أصبح لا يعذر أحد بكفره أو شركه .
2 - أن معرفته - تعالى - فطرية ضرورية . قال - تعالى - { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } وروى الترمذى عن عمران بن الحصين قال : " قال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى : يا حصين كم إلها تعبد اليوم . قال أبى : سبعة ؛ ستة في الرض وواحدا في السماء قال : فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك . قال : الذي في السماء " .
فالله - تعالى - فطر الخلق كلهم على معرفة فطرة التوحيد ، حتى من خلق مجنونا لا يفهم شيئا ما يحلف إلا به ، ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس .
ولكن الله - سبحانه - رحمة منه بعباده ، لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا ، وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الإنحراف - كما قال رسول الله [ ص ] بفعل شياطين الجن والإنس ؛ الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط الضعف ! . .
رحمة من الله بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا ؛ كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به ؛ حتى يرسل إليهم الرسل ، ويفصل لهم الآيات ، لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف ، واستنقاذ عقلهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات . ولو كان الله يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى دون رسل ولا رسالات ؛ ودون تذكير وتفصيل للآيات لأخذ الله عباده بها . ولكنه رحمهم بعلمه فجعل الحجة عليهم هي الرسالة :
( وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ) . .
يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله ؛ وإلى ما أودعه الله كينونتهم من قوى البصيرة والإدراك . فالرجعة إلى هذه المكنونات كفيلة بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب ؛ وردها إلى بارئها الوحيد ، الذي فطرها على عقيدة التوحيد . ثم رحمها فأرسل إليها الرسل بالآيات للتذكير والتحذير .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ وَلَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وكما فصلنا يا محمد لقومك آيات هذه السورة ، وبيّنا فيها ما فعلنا بالأمم السالفة قبل قومك ، وأحللنا بهم من المثلات بكفرهم وإشراكهم في عبادتي غيري ، كذلك نفصل الاَيات غيرها ونبينها لقومك ، لينزجروا ويرتدعوا ، فينيبوا إلى طاعتي ويتوبوا من شركهم وكفرهم ، فيرجعوا إلى الإيمان والإقرار بتوحيدي وإفراد الطاعة لي وترك عبادة ما سواي .
جملة : { وكذلك نفصل الآيات } معترضة بين القصتين ، والواو اعتراضية ، وتسمى واو الاستئناف أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات أي آيات القرآن ، وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } في سورة الأنعام ( 55 ) . وتفصيلها بيانها وتجريدها من الإلتباس .
وجملة : { ولعلهم يرجعون } عطف على جملة : { وكذلك نفصل الآيات } فهي في موقع الاعتراض ، وهذا إنشاء ترجّي رجوععِ المشركين إلى التوحيد ، وقد تقدم القول في تأويل معنى الرجاء بالنسبة إلى صدوره من جانب الله تعالى عنه قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } في سورة البقرة ( 21 ) .
والرجوع مستعار للإقلاع عن الشرك ، شُبه الإقلاع عن الحالة التي هم متلبسون بها بترك من حل في غير مقره الموضع الذي هو به ليرجع إلى مقره ، وهذا التشبيه يقتضي تشبيه حال الإشراك بموضع الغُربة ، لأن الشرك ليس من مقتضى الفطرة فالتلبس به خروج عن أصل الخلقة كخروج المسافر عن موطنه ، ويقتضي أيضاً تشبيه حال التوحيد بمحل المرء وحيّه الذي يأوي إليه ، وقد تكرر في القرآن إطلاق الرجوع على إقلاع المشركين عن الشرك كقوله : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براءٌ مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه لعلهم يرجعون } [ الزخرف : 26 28 ] أي يرجعون عن الشرك ، وهو تعريض بالعرب ، لأنهم المشركون من عقب إبراهيم ، وبقرينة قوله : { بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسولٌ مبينٌ } [ الزخرف : 29 ] ، فإني استقريْتُ من اصطلاح القرآن أنه يشير بهؤلاء إلى العرب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.