قوله تعالى : { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم } ، اختلفوا في الذين قالوا هذا ، قيل : كانوا من الفرقة الهالكة ، وذلك أنهم لم قيل لهم : انتهوا عن هذا العمل السيئ قبل أن ينزل بكم العذاب ، فإنا نعلم أن الله منزل بكم بأسه إن لم تنتهوا ، أجابوا وقالوا : { لم تعظون قوماً الله مهلكهم }
قوله تعالى : { أو } علمتم أنه .
قوله تعالى : { معذبهم عذاباً شديداً قالوا } أي : قال الناهون .
قوله تعالى : { معذرةً } أي : موعظتنا معذرة .
قوله تعالى : { إلى ربكم } ، قرأ حفص : ( معذرة ) بالنصب ، أي نفعل ذلك معذرة إلى ربكم ، والأصح أنها من قول الفرقة الساكنة للناهية ، قالوا : { لم تعظون قوماً الله مهلكهم } ، قالوا : { معذرة إلى ربكم } ، ومعناه : أن الأمر بالمعروف واجب علينا ، فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى الله .
قوله تعالى : { ولعلهم يتقون } ، أي : يتقون الله ، ويتركون المعصية ، ولو كان الخطاب مع المعتدين لكان يقول : { ولعلكم تتقون } .
( 164 ) معظمهم اعتدوا وتجرؤوا ، وأعلنوا بذلك .
وفرقة أعلنت بنهيهم والإنكار عليهم .
وفرقة اكتفت بإنكار أولئك عليهم ، ونهيهم لهم ، وقالوا لهم : لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا كأنهم يقولون : لا فائدة في وعظ من اقتحم محارم اللّه ، ولم يصغ للنصيح ، بل استمر على اعتدائه وطغيانه ، فإنه لا بد أن يعاقبهم اللّه ، إما بهلاك أو عذاب شديد .
فقال الواعظون : نعظهم وننهاهم مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي : لنعذر فيهم .
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي : يتركون ما هم فيه من المعصية ، فلا نيأس من هدايتهم ، فربما نجع فيهم الوعظ ، وأثر فيهم اللوم .
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة ، وإقامة حجة على المأمور المنهي ، ولعل اللّه أن يهديه ، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر ، والنهي .
ثم بين - سبحانه - طوائف هذه القرية وحال كل طائفة فقال تعالى { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
والذى يفهم من هذه الآية الكريمة ، - وعليه جمهور المفسرين - أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق :
1- فرقة المعتدين في السبت ، المتجاوزين حدود الله عن تعمد وإصرار .
2 - فرقة الناصحين لهم بالانتهاء عن تعديهم وفسوقهم .
3 - فرقة اللائمين للناصحين ليأسهم من صلاح العادين في السبت .
وهذه الفرقة الثالثة هى التي عبر القرآن الكريم عنها بقوله : { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أى : قالت فرقة من أهل القرية ، لإخوانهم الذين لم يألوا جهدا في نصيحة العادين في السبت ، لم تعظون قوما لا فائدة من وعظهم ولا جدوى من تحذيرهم ، لأن الله تعالى قد قضى باستئصالهم وتطهير الأرض منهم ، أو بتعذيبهم عذاباً شديداً ، جزاء تماديهم في الشر ، وصممهم عن سماع الموعظة فكان رد الناصحين عليهم { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
فهم قد عللوا نصيحتهم للعادين بعلتين :
الأولى : الاعتذار إلى الله - تعالى - من مغبة التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
والثانية : الأمل في صلاحهم وانتفاعهم بالموعظة حتى ينجو من العقوبة ، ويسيروا في طريق المهتدين .
وقيل : إن أهل القرية كانوا فرقتين ، فرقة أقدمت على الذنب فاعتدت في السبت ، وفرقة أحجمت عن الاقدام ، ونصحت المعتدين بعدم التجاوز لحدود الله - تعالى - فلما داومت الفرقة الواعظة على نصيحتها للفرقة العادية ، قالت لها الفرقة العادية على سبيل التهكم والاستهزاء : لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديدا في زعمكم ؟ فأجابتهم الناصحة بقولها .
والذى نرجحه أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق كما قال جمهور المفسرين - لأن هذا هو الظاهر من الضمائر في الآية الكريمة ، إذ لو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية ( ولعلكم تتقون ) بكاف الخطاب ، بدل قولهم ( ولعلهم يتقون ) الذي يدل على أن المحاورة قد دارت بين الفرقة اللائمة ، والفرقة الناصحة .
قال الإمام القرطبى عند تفسيره الاية الكريمة : إن بنى إسرائيل افترقت ثلاث فرق " فرقة عصت وصدت ، وكانوا ، نحوا من سبعين ألفاً ، فرقة نهت واعتزلت ، وكانوا نحوا من اثنى عشر ألفاً ، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص ، وأن هذه الطائفة هى التي قالت للناهية ، لم تعظون قوما - عصاة - الله مهلكهم ، أو معذبهم على غلبة الظن . وما عهد حينئذ من فعل الله تعالى بالأمم العاصية ؟ ) .
وقوله { مَعْذِرَةً } بالنصب على أنها مفعول لأجله أى : وعظناهم لأجل المعذرة ، أو منصوبة على أنها مصدر لفعل مقدر من لفظها أى : نعتذر معذرة وقرئت " معذرة " بالرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أى : موعظتنا معذرة وقد اختار سيبويه هذا الوجه وقال في تعليله : لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً ولكنهم قيل لهم لم تعظون ؟ فقالوا موعظتنا معذرة .
بينما مضى فريق ثالث يقول للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر : ما فائدة ما تزاولونه مع هؤلاء العصاة ، وهم لا يرجعون عما هم آخذون فيه ؟ وقد كتب الله عليهم الهلاك والعذاب ؟
( وإذ قالت أمة منهم : لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ؟ ) .
فلم تعد هناك جدوى من الوعظ لهم ، ولم تعد هناك جدوى لتحذيرهم . بعدما كتب الله عليهم الهلاك أو العذاب الشديد ؛ بما اقترفوه من انتهاك لحرمات الله .
( قالوا : معذرة إلى ربكم ، ولعلهم يتقون ) . .
فهو واجب لله نؤديه : واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتخويف من انتهاك الحرمات ، لنبلغإلى الله عذرنا ، ويعلم أن قد أدينا واجبنا . ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى .
وهكذا انقسم سكان الحاضرة إلى ثلاث فرق . . أو ثلاث أمم . . فالأمة في التعريف الإسلامي هي مجموعة الناس التي تدين بعقيدة واحدة وتصور واحد وتدين لقيادة واحدة ، وليست كما هي في المفهوم الجاهلي القديم أو الحديث ، مجموعة الناس التي تسكن في إقليم واحد من الأرض وتحكمها دولة واحدة ! فهذا مفهوم لا يعرفه الإسلام ، إنما هي من مصطلحات الجاهلية القديمة أو الحديثة !
وقد انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم : أمة عاصية محتالة . وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة . وأمة تدع المنكر وأهله ، وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي . . وهي طرائق متعددة من التصور والحركة ، تجعل الفرق الثلاث أمماً ثلاثاً !
يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق : فرقة{[12281]} ارتكبت المحذور ، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت ، كما تقدم بيانه في سورة البقرة . وفرقة نهت عن ذلك ، [ وأنكرت ]{[12282]} واعتزلتهم . وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ، ولكنها قالت للمنكرة : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } ؟ أي : لم تنهون هؤلاء ، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله ؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم . قالت لهم المنكرة : { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } قرأ بعضهم بالرفع ، كأنه على تقديره : هذا معذرة وقرأ آخرون بالنصب ، أي : نفعل ذلك { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } أي : فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يقولون : ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ، ويرجعون إلى الله تائبين ، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قَالَتْ أُمّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىَ رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر أيضا يا محمد ، إذ قالت أمة منهم ، جماعة منهم لجماعة كانت تعظ المعتدين في السبت وتنهاهم عن معصية الله فيه : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكهُمْ في الدنيا بمعصيتهم إياه ، وخلافهم أمره ، واستحلالهم ما حرّم عليهم . أوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا في الاَخرة ، قال الذين كانوا ينهونهم عن معصية الله مجيبيهم عن قولهم : عظتنا إياهم مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ نؤدّي فرضه علينا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وَلَعَلّهُمْ يَتّقونَ يقول : ولعلهم أن يتقوا الله فيخافوه ، فينيبوا إلى طاعته ويتوبوا من معصيتهم إياه وتعدّيه على ما حرّم عليهم من اعتدائهم في السبت . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : قالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ لسخطنا أعمالهم . وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ : أي ينزعون عما هم عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَعلّهُمْ يَتّقُونَ قال : يتركون هذا العمل الذي هم عليه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : قالُوا مَعْذِرَةً فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والكوفة والبصرة : «مَعْذِرَةٌ » بالرفع على ما وصفت من معناها . وقرأ ذلك بعض أهل الكوفة : مَعْذِرَةً نصبا ، بمعنى : إعذارا وعظناهم وفعلنا ذلك .
واختلف أهل العلم في هذه الفرقة التي قالت : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ هل كانت من الناجية ، أم من الهالكة ؟ فقال بعضهم : كانت من الناجية ، لأنها كانت من الناهية الفرقةَ الهالكة عن الاعتداء في السبت . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا هي قرية على شاطىء البحر بين مكة والمدينة يقال لها أيلة ، فحرّم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم ، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرّعا في ساحل البحر ، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها ، فمكثوا بذلك ما شاء الله . ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم ، فنهتهم طائفة وقالوا : تأخذونها وقد حرّمها الله عليكم يوم سبتكم فلم يزدادوا إلاّ غيّا وعتوّا ، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم . فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة : تعلمون أن هؤلاء قوم قد حقّ عليهم العذاب لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكهُمْ ؟ وكانوا أشدّ غضبا لله من الطائفة الأخرى ، فقالوا : معذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعلّهُمْ يَتّقُونَ وكلّ قد كانوا ينهون . فلما وقع عليهم غضب الله ، نجت الطائفتان اللتان قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ ، والذين قالوا : مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ ، وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان ، فجعلهم قردة وخنازير .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ . . . إلى قوله : وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأتِيهِم وذلك أن أهل قرية كانت حاضرة البحر كانت تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم ، يقول : إذا كانوا يوم يسبتون تأتيهم شرّعا ، يعني من كلّ مكان ، ويَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأتِيهِمْ . وأنهم قالوا : لو أنا أخذنا من هذه الحيتان يوم تجيء ما يكفينا فيما سوى ذلك من الأيام . فوعظهم قوم مؤمنون ونهوهم . وقالت طائفة من المؤمنين : إن هؤلاء قوم قد هموا بأمر ليسوا بمنتهين دونه ، والله مخزيهم ومعذّبهم عذابا شديدا . قال المؤمنون بعضهم لبعض : مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ إن كان هلاك فلعلنا ننجو وإما أن ينتهوا فيكون لنا أجرا . وقد كان الله جعل على بني إسرائيل يوما يعبدونه ويتفرّغون له فيه ، وهو يوم الاثنين ، فتعدّى الخبثاء من الاثنين إلى السبت ، وقالوا : هو يوم السبت . فنهاهم موسى ، فاختلفوا فيه ، فجعل عليهم السبت ، ونهاهم أن يعملوا فيه وأن يعتدوا فيه . وإن رجلاً منهم ذهب ليحتطب ، فأخذه موسى عليه السلام ، فسأله : هل أمرك بهذا أحد ؟ فلم يجد أحدا أمره ، فرجمه أصحابه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال بعض الذين نهوهم لبعض : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا ؟ يقول : لم تعظونهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم ؟ فقال بعضهم : مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هانىء ، قال : حدثنا حماد ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قال : ما أدري أنجا الذين قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أم لا ؟ قال : فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا ، فكساني حُلّة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حماد ، عن داود ، عن عكرمة ، قال : قرأ ابن عباس هذه الاَية ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال في حديثه : فما زلت أبصّره حتى عرف أنهم قد نجوا .
حدثني سلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا يحيى بن سليم الطائفي ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : دخلت على ابن عباس والمصحف في حجره وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك جعلني الله فداءك ؟ قال : فقرأ : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ . . . إلى قوله : بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ قال ابن عباس : لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت نخاف أن نكون مثلهم . فقلت : أما تسمع الله يقول : فَلَمّا عَتَوْا عَمّا نُهوا عَنْه ؟ فسرّي عنه وكساني حُلّة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : ثني رجل ، عن عكرمة ، قال : جئت ابن عباس يوما وهو يبكي ، وإذا المصحف في حجره ، فأعظمت أن أدنو ، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست ، فقلت : ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك ؟ فقال : هؤلاء الورقات . قال : وإذا هو في سورة الأعراف . قال : تعرف أيلة ؟ قلت : نعم . قال : فإنه كان حيّ من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كدّ ومؤنة شديدة ، كانت تأتيهم يوم السبت شرّعا بيضا سمانا كأنها الماخض ، تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم وأبنيتهم . فكانوا كذلك برهة من الدهر ، ثم إن الشيطان أوحى إليهم ، فقال : إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت ، فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام فقالت ذلك طائفة منهم ، وقالت طائفة منهم : بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها في يوم السبت . وكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة ، فعدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها ، واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحت ، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت ، وقال الأيمنون : الله ينهاكم عن أن تعترضوا لعقوبة الله ، وقال الأيسرون : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا ؟ قال الأيمنون : مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ أي ينتهون ، فهو أحبّ إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا ، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم . فمضوا على الخطيئة ، فقال الأيمنون : قد فعلتم يا أعداء الله ، والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم ، والله ما نراكم تصبحون حتى يصيبكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده بالعذاب فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا ، فلم يجابوا ، فوضعوا سلما وأعلوا سور المدينة رجلاً ، فالتفت إليهم فقال : أي عباد الله قردة والله تعاوى لها أذناب قال : ففتحوا فدخلوا عليهم ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة ، فجعلت القرود تأتي نسيبها من الإنس ، فتشمّ ثيابه وتبكي ، فتقول لهم : ألم ننهكم عن كذا ؟ فتقول برأسها نعم . ثم قرأ ابن عباس : فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ أنْجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وأخَذْنا الّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ قال : فأرى اليهود الذين نهوا قد نجوا ، ولا أرى الاَخرين ذكروا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ، فلا نقول فيها ، قال : قلت : أي جعلني الله فداك ، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ ؟ قال : فأمر بي فكسيت بردين غليظين .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحرِ ذكر لنا أنه إذا كان يوم السبت أقبلت الحيتان حتى تنتطح على سواحلهم وأفنيتهم لما بلغها من أمر الله في الماء ، فإذا كان في غير يوم السبت بعُدت في الماء حتى يطلبها طالبهم ، فأتاهم الشيطان ، فقال : إنما حرم عليكم أكلها يوم السبت ، فاصطادوها يوم السبت وكلوها فيما بعد . . . قوله : وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ فصار القوم ثلاثة أصناف : أما صنف ، فأمسكوا عن حرمة الله ونهوا عن معصية الله . وأما صنف فأمسك عن حرمة الله هيبة لله . وأما صنف فانتهك الحرمة ووقع في الخطيئة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله : حاضِرَةَ البَحْرِ قال : حرمت عليهم الحيتان يوم السبت ، وكانت تأتيهم يوم السبت شرّعا ، بلاء ابتلوا به ، ولا تأتيهم في غيره إلا أن يطلبوها ، بلاء أيضا بما كانوا يفسقون . فأخذوها يوم السبت استحلالاً ومعصية ، فقال الله لهم : كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ إلا طائفة منهم لم يعتدوا ونهوهم ، فقال بعضهم لبعض : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ . . . حتى بلغ : وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ لعلهم يتركون ما هم عليه . قال : كانوا قد بلوا بكفّ الحيتان عنهم ، وكانوا يسبتون في يوم السبت ، ولا يعملون فيه شيئا ، فإذا كان يوم السبت أتتهم الحيتان شرّعا ، وإذا كان غير يوم السبت لم يأت حوت واحد . قال : وكانوا قوما قد قرنوا بحبّ الحيتان ، ولقوا منه بلاء ، فأخذ رجل منهم حوتا ، فربط في ذنبه خيطا ، ثم ربطه إلى خَشَفَة ، ثم تركه في الماء ، حتى إذا غربت الشمس من يوم الأحد اجترّه بالخيط ، ثم شواه . فوجد جار له ريح حوت ، فقال : يا فلان إني أجد في بيتك ريح نون فقال : لا . قال : فتطلع في تنوره فإذا هو فيه فأخبره حينئذ الخبر ، فقال : إني أرى الله سيعذّبك . قال : فلما لم يره عجل عذابا ، فلما أتى السبت الاَخر أخذ اثنين فربطهما ، ثم اطلع جار له عليه . فلما رآه لم يعجل عذابا جعلوا يصيدونه ، فاطلع أهل القرية عليهم ، فنهاهم الذين ينهون عن المنكر ، فكانوا فرقتين : فرقة تنهاهم وتكفّ ، وفرقة تنهاهم ولا تكفّ ، فقال الذين نهوا وكفوا للذين ينهون ولا يكفون : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا فقال الاَخرون : مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ فقال الله : فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ أنْجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ . . . إلى قوله : بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ قال الله : فَلَمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ وقال لهم أهل تلك القرية : عملتم بعمل سوّء ، من كان يريد يعتزل ويتطهر فليعتزل هؤلاء قال : فاعتزل هؤلاء وهؤلاء في مدينتهم ، وضربوا بينهم سورا ، فجعلوا في ذلك السور أبوابا يخرج بعضهم إلى بعض . قال : فلما كان الليل طرقهم الله بعذابه ، فأصبح أولئك المؤمنون لا يرون منهم أحدا ، فدخلوا عليهم ، فإذا هم قردة ، الرجل وأزواجه وأولاده . فجعلوا يدخلون على الرجل يعرفونه ، فيقولون : يا فلان ألم نحذّرك سطوات الله ؟ ألم نحذرك نقِمات الله ؟ ونحذّرك ونحذرك ؟ قال : فليس إلا بكاء . قال : وأنما عذّب الله الذين ظلموا الذين أقاموا على ذلك . قال : وأما الذين نهوا فكلهم قد نَهَى ، ولكن بعضهم أفضل من بعض فقرأ : أنْجَيْنا الّذينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وأخَذْنا الّذِين ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن داود ، عن عكرمة ، قال : قرأ ابن عباس هذه الاَية : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قال : لا أدري أنجا القوم أو هلكوا ؟ فما زلت أبصّره حتى عرف أنهم نجوا ، وكساني حُلّة .
حدثني يونس ، قال : أخبرني أشهب بن عبد العزيز ، عن مالك ، قال : زعم ابن رومان أن قوله : تَأتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ قال : كانت تأتيهم يوم السبت ، فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شيء إلى السبت ، فاتخذ لذلك رجل منهم خيطا ووتدا ، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت ، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه ، فوجد الناس ريحه ، فأتوه فسألوه عن ذلك ، فجحدهم ، فلم يزالوا به حتى قال لهم : فإنه جلد حوت وجدناه فلما كان السبت الاَخر فعل مثل ذلك ، ولا أدري لعله قال : ربط حوتين ، فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه ، فوجدوا ريحه ، فجاءوا فسألوه ، فقال لهم : لو شئتم صنعتم كما أصنع ، فقالوا له : وما صنعت ؟ فأخبرهم ، ففعلوا مثل ما فعل ، حتى كثر ذلك . وكانت لهم مدينة لها ربَض ، فغلّقوها عليهم ، فأصابهم من المسخ ما أصابهم ، فغدا إليهم جيرانهم ممن كان يكون حولهم ، يطلبون منهم ما يطلب الناس ، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم ، فنادوا فلم يجيبوهم ، فتسوّروا عليهم ، فإذا هم قردة ، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ويدنو منه ويتمسح به .
وقال آخرون : بل الفرقة التي قالت : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ كانت من الفرقة الهالكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، عن داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ . . . إلى قوله : شُرّعا قال : قال ابن عباس : ابتدعوا السبت ، فابتلوا فيه ، فحرّمت عليهم فيه الحيتان ، فكانوا إذا كان يوم السبت شرَعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر ، فإذا انقضى السبت ذهبت ، فلم تر حتى السبت المقبل ، فإذا جاء السبت جاءت شرّعا . فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ، ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتا فخزم أنفه ، ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه وتركه في الماء ، فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله . ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون ، ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نهوه ، حتى ظهر ذلك في الأسواق وفعل علانية ، قال : فقالت طائفة للذين ينهون : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قالُوا مَعْذرَةً إلى رَبّكُمْ في سخطنا أعمالهم وَلَعَلّهُمْ يَتّقُونَ فَلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ . . . إلى قوله : قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ . قال ابن عباس : كانوا أثلاثا : ثلث نهوا ، وثلث قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ ، وثلث أصحاب الخطيئة . فلما نجا إلا الذين نهوا ، وهلك سائرهم ، فأصبح الذين نهوا عن السوء ذات يوم في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم ، فغلقوا عليهم دورهم ، فجعلوا يقولون : إن للناس لشأنا ، فانظروا ما شأنهم فاطلعوا في دورهم ، فإذا القوم قد مسخوا في ديارهم قردة ، يعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد ، ويعرفون المرأة بعينها وإنها لقردة ، قال الله : فجَعَلْناها نَكالاً لِمَا بينَ يَدَيْها وما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً للْمُتّقِينَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي بكر الهذليّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنْجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ . . . الاَية ، قال ابن عباس : نجا الناهون ، وهلك الفاعلون ، ولا أدري ما صنع بالساكتين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن ابن عباس : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ قال : هم ثلاث فرق : الفرقة التي وعظت ، والموعوظة التي وُعِظت ، والله أعلم ما فعلت الفرقة الثالثة ، وهم الذين قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ .
وقال الكلبي : هما فرقتان : الفرقة التي وعظت ، والفرقة التي قالت : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ قال : هي الموعوظة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لأن أكون علمتُ مَنْ هؤلاء الذين قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مَعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا أحبّ إليّ مما عدل به .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، قال : قال ابن عباس : وَإذْ قالَتْ أُمّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ قال : أسمع الله يقول : أنْجَيْنا الّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وأخَذْنا الّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ فليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا : لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ماهان الحنفيّ أبي صالح ، في قوله : تَأتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ قال : كانوا في المدينة التي على ساحل البحر ، وكانت الأيام ستة ، الأحد إلى الجمعة ، فوضعت اليهود يوم السبت ، وسَبَتوه على أنفسهم ، فسبته الله عليهم ، ولم يكن السبت قبل ذلك ، فوكّده الله عليهم ، وابتلاهم فيه بالحيتان ، فجعلت تشرع يوم السبت ، فيتقون أن يصيبوا منها ، حتى قال رجل منهم : والله ما السبت بيوم وكّده الله علينا ، ونحن وكدناه على أنفسنا ، فلو تناولت من هذا السمك فتناول حوتا من الحيتان ، فسمع بذلك جاره ، فخاف العقوبة فهرب من منزله . فلما مكث ما شاء الله ولم تصبه عقوبة تناول غيره أيضا في يوم السبت . فلما لم تصبهم العقوبة كثر من تناول في يوم السبت ، واتخذوا يوم السبت وليلة السبت عيدا يشربون فيه الخمور ويلعبون فيه بالمعازف ، فقال لهم خيارهم وصلحاؤهم : ويحكم ، انتهوا عما تفعلون ، إن الله مهلككم أو معذّبكم عذابا شديدا أفلا تعقلون ؟ ولا تعدوا في السبت فأبوا ، فقال خيارهم : نضرب بيننا وبينهم حائطا ففعلوا . وكان إذا كان ليلة السبت تأذّوا بما يسمعون من أصواتهم وأصوات المعازف . حتى إذا كانت الليلة التي مسخوا فيها ، سكنت أصواتهم أوّل الليل ، فقال خيارهم : ما شأن قومكم قد سكنت أصواتهم الليلة ؟ فقال بعضهم : لعلّ الخمر غلبتهم فناموا . فلما أصبحوا لم يسمعوا لهم حسّا ، فقال بعضهم لبعض : ما لنا لا نسمع من قومكم حسّا ؟ فقالوا لرجل : اصعد الحائط وانظر ما شأنهم فصعد الحائط فرآهم يموج بعضهم في بعض ، قد مسخوا قردة ، فقال لقومه : تعالوا فانظروا إلى قومكم ما لقوا فصعدوا ، فجعلوا ينظرون إلى الرجل ، فيتوسمون فيه ، فيقولون : أي فلان أنت فلان ؟ فيومىء بيده إلى صدره : أي نعم بما كسبت يداي .
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن علية ، عن أيوب قال : تلا الحسن ذات يوم : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السّبْتِ إذْ تَأتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كذلكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ فقال : كان حوتا حرّمه الله عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك ، فكان يأتيهم في اليوم الذي حرّمه الله عليهم كأنه المخاض لا يمتنع من أحد ، وقلّما رأيت أحدا يكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعه . قال : فجعلوا يهمون ويمسكون حتى أخذوه ، فأكلوا أوخم أكلة أكلها قوم قطّ ، أثقله خزيا في الدنيا وأشدّه عقوبة في الاَخرة ، وايمُ الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مؤمن ، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت ، ولكن الله جعل موعد قوم الساعة والسّاعَةُ أدْهَى وأَمَرّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الحسن ، قال : جاءتهم الحيتان تشرع في حياضهم كأنها المخاض ، فأكلوا والله أوخم أكلة أكلها قوم قطّ ، أسوأه عقوبة في الدنيا وأشدّه عذابا في الاَخرة . وقال الحسن : وقتل المؤمن والله أعظم من أكل الحيتان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، قال : كنت جالسا في المسجد ، فإذا شيخ قد جاء وجلس الناس إليه ، فقالوا : هذا من أصحاب عبد الله بن مسعود ، فقال : قال ابن مسعود : وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ . . . الاَية ، قال : لما حرّم عليهم السبت كانت الحيتان تأتي يوم السبت ، وتأمن وتجيء فلا يستطيعون أن يمسّوها ، وكان إذا ذهب السبت ذهبت ، فكانوا يتصيّدُونَ كما يتصيّد الناس . فلما أرادوا أن يعدوا في السبت ، اصطادوا ، فنهاهم قوم من صالحيهم ، فأبوا ، وكثّرهم الفجار ، فأراد الفجار قتالهم ، فكان فيهم من لا يشتهون قتاله ، أبو أحدهم وأخوه أو قريبه . فلما نهوهم وأبوا ، قال الصالحون : إنا نباينهم ، وإنا نجعل بيننا وبينهم حائطا ففعلوا ، فلما فقدوا أصواتهم ، قالوا : لو نظرتم إلى إخوانكم ما فعلوا فنظروا فإذا هم قد مسخوا قردة ، يعرفون الكبير بكبره والصغير بصغره ، فجعلوا يبكون إليهم . وكان هذا بعد موسى صلى الله عليه وسلم .
قال جمهور المفسرين : إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق ، فرقة عصت وصادت ، وفرقة نهت وجاهرت وتكلمت واعتزلت ، وفرقة اعتزلت ولم تعص ولم تنه ، وإن هذه الفرقة لما رأت مجاهرة الناهية وطغيان العاصية وعتوها قالت للناهية { لم تعظون قوماً } يريدون العاصية { الله مهلكهم أو معذبهم } على غلبة الظن وما عهد من فعل الله حينئذ بالأمم العاصية ، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ، ثم اختلف بعد هذا فقالت فرقة إن الطائفة التي لم تعص ولم تنه هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي ، قاله ابن عباس ، وقال أيضاً : ما أدري ما فعل بهم ، وقالت فرقة بل نجت مع الناهية لأنها لم تعص ولا رضيت قاله عكرمة والحسن وغيرهما ، وقال ابن الكلبي فيما أسند عنه الطبري إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين ، فرقة عصت وجاهرت وفرقة نهت وغيرت واعتزلت ، وقالت للعاصية إن الله يهلكهم ويعذبهم ، فقالت أمة من العاصين للناهين على جهة الاستهزاء لم تعظون قوماً قد علمتم أن الله مهلكهم أو معذبهم .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أصوب ، وتؤيده الضمائر في قوله : { إلى ربكم ولعلهم } فهذه المخاطبة تقتضي مخاطِباً ومخاطباً ومكنياً عنه ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي «معذرةٌ » بالرفع ، أي موعظتنا ، معذرة أي إقامة عذر ، وقرأ عاصم في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف «معذرةً » بالنصب أي وعظنا معذرة ، قال أبو علي حجتها أن سيبويه قال : لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا لنصب .
قال القاضي أبو محمد : الرجل القائل في هذا المثال معتذر عن نفسه وليس كذلك الناهون من بني إسرائيل فتأمل ، ومعنى { مهلكهم } في الدنيا { أو معذبهم } في الآخرة ، وقوله : { لعلهم يتقون } يقتضي الترجي المحض ، لأنه من قول آدميين .
جملة : { وإذ قالت أمة منهم } عطف على قوله : { إذ يعدون } [ الأعراف : 163 ] والتقدير : واسألَ بني إسرائيل إذ قالت أمة منهم ، فإذْ فيه اسم زمان للماضي وليست ظرفاً ، ولها حكم { إذْ } [ الأعراف : 163 ] أختها ، المعطوفة هي عليها ، فالتقدير : واسألهم عن وقت قالت أمة ، أي عن زمنَ قول أمة منهم ، والضمير المجرور بمن عائِد إلى ما عاد إليه ضمير { أسألهم } [ الأعراف : 163 ] وليس عائداً إلى القرية ، لأن المقصود توبيخ بني إسرائيل كلهم ، فإن كان هذا القول حصل في تلك القرية كما ذكره المفسرون كان غير منظور إلى حصوله في تلك القرية ، بل منظوراً إليه بأنه مظهر آخر من مظاهر عصيانهم وعتوهم وقلة جدوى الموعظة فيهم ، وأن ذلك شأن معلوم منهم عند علمائهم وصلحائهم ، ولذلك لما عطفت هذه القصة أعيد معها لفظ اسم الزمان فقيل : { وإذْ قالت أمة } ولم يقل : وقالت أمة .
والأمة الجماعة من الناس المشتركة في هذا القول ، قال المفسرون : إن أمة من بني إسرائيل كانت دائبة على القيام بالموعظة والنهى عن المنكر ، وأمة كانت قامت بذلك ثم أيست من إتعاظ الموعوظين وأيقنت أن قد حقت على الموعوظين المصمين آذانهم كلمة العذاب ، وأمة كانت سادرة في غلوائها ، لا ترعوي عن ضلالتها ، ولا ترقب الله في أعمالها .
وقد أجملت الآية ما كان من الأمة القائلة إيجازاً في الكلام ، اعتماداً على القرينة لأن قولهم : { الله مهلكهم } يدل على أنهم كانوا منكرين على الموعوظين ، وإنهم ما علموا أن الله مهلكهم إلاّ بعدَ أن مارسوا أمرهم ، وسبروا غورهم ، ورأوا أنهم لا تغني معهم العظات ، ولا يكون ذلك إلاّ بعد التقدم لهم بالموعظة ، وبقرينة قوله بعد ذلك { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } إذ جعل الناس فريقين ، فعلمنا أن القائلين من الفريق الناجي ، لأنهم ليسوا بظالمين ، وعلمنا أنهم ينهون عن السوء .
وقد تقدم ذكر الوعظ عند قوله تعالى : { فأعرض عنهم وعظْهم } في سورة النساء ( 63 ) وعند قوله آنفاً { موعظة وتفصيلاً لكل شيء } في هذه السورة ( 145 ) .
واللام في { لمَ تعظون } للتعليم ، فالمستفهم عنه من نوع العلل ، والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، فيدل على انتفاء جميع العلل التي من شأنها أن يوعظَ لتحصيلها ، وذلك يفضي إلى اليأس من حصول إتعاظهم ، والمخاطب ب { تعظون } أمة أخرى .
ووصف القوم بأن الله مهلكهم : مبني على أنهم تحققتْ فيهم الحال التي أخبر الله بأنه يهلك أو يعذب من تحققتْ فيه ، وقد أيقن القائلون بأنها قد تحققت فيهم ، وأيقن المقول لهم بذلك حتى جاز أن يصفهم القائلون للمخاطبين بهذا الوصف الكاشف لهم بأنهم موصوفون بالمصير إلى أحد الوعيدين .
واسما الفاعل في قوله : { مهلكهم أو معذبهم } مستعملان في معنى الاستقبال بقرينة المقام ، وبقرينة التردد بين الإهلاك والعذاب ، فإنها تؤذن بأن أحد الأمرين غير معين الحصول ، لأنه مستقبل ولكن لا يخلو حالهم عن أحدهما .
وفصلت جملة { قالوا } لوقوعها في سياق المحاورة ، كما تقدم غير مرة أي قال المخاطبون بِ { لمَ تعظون قوماً } الخ .
والمعذرة بفتح الميم وكسر الذال مصدر ميمي لفعل ( اعتذر ) على غير قياس ، ومعنى اعتذر أظهر العذر بضم العين وسكون الذال والعذر السبب الذي تبطل به المؤاخذة بذنب أو تقصير ، فهو بمنزلة الحجة التي يبديها المؤاخَذ بذنب ؛ ليظهر أنه بريء مما نسب إليه ، أو متأول فيه ، ويقال : عذَره إذا قبل عذره وتحقق براءته ، ويعدّى فعل الاعتذار بإلى لما فيه من معنى الإنهاء والإبلاغ .
وارتفع { معذرة } على أنه خبر لمبتدإ محذوف دل عليه قول السائلين { لم تعظون } والتقديرُ موعظتنا معذرة منا إلى الله .
وبالرفع قرأه الجمهور ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على المفعول لأجله أي وعظناهم لأجل المعذرة .
وقوله : { ولعلهم يتقون } علة ثانية للاستمرار على الموعظة أي رجاء لتأثير الموعظة فيهم بتكرارها .
فالمعنى : أن صلحاء القوم كانوا فريقين . فريق منهم أيِس من نجاح الموعظة وتحقق حلول الوعيد بالقوم ، لتوغلهم في المعاصي ، وفريق لم ينقطع رجاؤُهم من حصول أثر الموعظة بزيادة التكرار ، فأنكر الفريقُ الأول على الفريق الثاني استمرارهم على كلفة الموعظة . واعتذر الفريق الثاني بقولهم : { معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } فالفريق الأول أخذوا بالطرف الراجح الموجب للظن . والفريق الثاني أخذوا بالطرف المرجوح جمعاً بينه وبين الراجح لقصد الاحتياط ، ليكون لهم عذراً عند الله إن سألهم لماذا أقلعتم عن الموعظة ولما عسى أن يحصل من تقوى الموعوظين بزيادة الموعظة ، فاستعمال حرف الرجاء في موقعه ، لأن الرجاء يقال على جنسه بالتشكيك فمنه قوي ومنه ضعيف .