قوله تعالى : { وأعطى } صاحبه ، { قليلاً وأكدى } بخل بالباقي . وقال مقاتل : أعطى يعني الوليد قليلاً من الخير بلسانه ، وأكدى : ثم أكدى يعني قطعه وأمسك ولم يقم على العطية . وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور . وقال محمد بن كعب القرظي نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال : والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق ، فذلك قوله :{ وأعطى قليلاً وأكدى } لم يؤمن به ، ومعنى أكدى : يعني اقطع ، وأصله من الكدية ، وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر ، تقول العرب : أكدى الحافر وأجبل ، إذا بلغ في الحفر الكدية والجبل .
فإن سمحت نفسه ببعض الشيء ، القليل ، فإنه لا يستمر عليه ، بل يبخل ويكدى ويمنع .
فإن المعروف ليس سجية له وطبيعة{[906]} بل طبعه التولي عن الطاعة ، وعدم الثبوت على فعل المعروف ، ومع هذا ، فهو يزكي نفسه ، وينزلها غير منزلتها التي أنزلها الله بها .
بعد ذلك يجيء المقطع الأخير في السورة . في إيقاع كامل التنغيم ، أشبه بإيقاع المقطع الأول . يقرر الحقائق الأساسية للعقيدة كما هي ثابتة منذ إبراهيم صاحب الحنيفية الأولى . ويعرف البشر بخالقهم ، بتعليمهم بمشيئته الفاعلة المبدعة المؤثرة في حياتهم ويعرض آثارها واحدا واحدا بصورة تلمس الوجدان البشري وتذكره وتهزه هزا عميقا . . حتى إذا كان الختام وكان الإيقاع الأخير تلقته المشاعر مرتجفة مرتعشة متأثرة مستجيبة :
( أفرأيت الذي تولى ، وأعطى قليلا وأكدى ? أعنده علم الغيب فهو يرى ? أم لم ينبأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفى . ألا تزر وازرة وزر أخرى . وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . وأن سعيه سوف يرى . ثم يجزاه الجزاء الأوفى . وأن إلى ربك المنتهى . وأنه هو أضحك وأبكى . وأنه هو أمات وأحيا . وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى . وأن عليه النشأة الأخرى ، وأنه هو أغنى وأقنى . وأنه هو رب الشعرى . وأنه أهلك عادا الأولى . وثمود فما أبقى . وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى . والمؤتفكة أهوى . فغشاها ما غشى . فبأي آلاء ربك تتمارى ? هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون ، وتضحكون ولا تبكون ، وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا ) . . وذلك ( الذي تولى ، وأعطى قليلا وأكدى ) . . الذي يعجب الله من أمره الغريب ، تذكر بعض الروايات أنه فرد معين مقصود ، أنفق قليلا في سبيل الله ، ثم انقطع عن البذل خوفا من الفقر . ويحدد الزمخشري في تفسيره " الكشاف " شخصه ، أنه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ويذكر في ذلك قصة ، لا يستند فيها إلى شيء ، ولا يقبلها من يعرف عثمان - رضي الله عنه - وطبيعته وبذله الكثير الطويل في سبيل الله بلا توقف وبلا حساب كذلك ؛ وعقيدته في الله وتصوره لتبعة العمل وفرديته .
وقد يكون المقصود شخصا بذاته . وقد يكون نموذجا من الناس سواء . فالذي يتولى عن هذا النهج ، ويبذل من ماله أو من نفسه لهذه العقيدة ثم يكدي - أي يضعف عن المواصلة ويكف - أمره عجيب ، يستحق التعجيب ويتخذ القرآن من حاله مناسبة لعرض حقائق العقيدة وتوضيحها .
يقول تعالى ذكره : أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان بالله ، وأعرض عنه وعن دينه ، وأعطى صاحبه قليلاً من ماله ، ثم منعه فلم يعطه ، فبخِل عليه . وذُكر أن هذه الاَية نزلت في الوليد بن المغيرة من أجل أنه عاتبه بعض المشركين ، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه ، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله ، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الاَخرة ، ففعل ، فأعطى الذي عاتبه على ذلك بعض ما كان ضمن له ، ثم بخل عليه ومنعه تمام ما ضمن له . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وأكْدَى قال الوليد بن المغيرة : أعطى قليلاً ثم أكدى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أفَرأَيْتَ الّذِي تَوَلّى . . . إلى قوله : فَهُوَ يَرَى قال : هذا رجل أسلم ، فلقيه بعض من يُعَيّره فقال : أتركت دين الأشياخ وضَلّلتهم ، وزعمت أنهم في النار ، كان ينبغي لك أن تنصرهم ، فكيف يفعل بآبائك ، فقال : إني خشيت عذاب الله ، فقال : أعطني شيئا ، وأنا احمل كلّ عذاب كان عليك عنك ، فاعطاه شيئا ، فقال زدني ، فتعاسر حتى أعطاه شيئا ، وكتب له كتابا ، وأشهد له ، فذلك قول الله : أفَرأيْتَ الّذِي تَوَلي وأعْطَى قَلِيلاً وأكْدَى عاسره أعِنْدَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُوَ يَرَى نزلت فيه هذه الاَية . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : أكْدَى قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي سنان الشيباني ، عن ثابت ، عن الضحاك ، عن ابن عباس أعْطَى قَلِيلاً وأكْدَى قال : أعطى قليلاً ثم انقطع .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أفَرأَيْتَ الّذِي تَوَلى وأعْطَى قَلِيلاً وأكْدَى يقول : أعطى قليلاً ثم انقطع .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وأعْطَى قَلِيلاً وأكْدَى قال : انقطع فلا يُعْطِي شيئا ، ألم تر إلى البئر يقال لها أكدت .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأكْدَى : انقطع عطاؤه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن ابن طاوس وقتادة ، في قوله : وأكْدَى قال : أعطى قليلاً ، ثم قطع ذلك .
قال : ثنا ابن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن عكرِمة مثل ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأكْدَى أي بخل وانقطع عطاؤه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وأكْدَى يقول : انقطع عطاؤه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأكْدَى عاسره ، والعرب تقول : حفر فلان فأكدى ، وذلك إذا بلغ الكدية ، وهو أن يحفِر الرجل في السهل ، ثم يستقبله جبل فيُكْدِي ، يقال : قد أكدى كداء ، وكديت أظفاره وأصابعه كدًى شديدا ، منقوص : إذا غلظت ، وكديت أصابعه : إذا كلّت فلم تعمل شيئا ، وكدا النبت إذا قلّ ريعه يهمز ولا يهمز . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : اشتق قوله : أكدى ، من كُدَية الركِيّة ، وهو أن يحفِر حتى ييأس من الماء ، فيُقال حينئذٍ بلغنا كُدْيتها .
الفاء لتفريع الاستفهام التعجيبي على قوله { ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } إذ كان حال هذا الذي تولى وأعطى قليلا وأكدا جهلا بأن للإنسان ما سعى وقد حصل في وقت نزول الآية المتقدمة أو قبلها حادث أنبأ عن سوء الفهم لمراد الله من عباده مع أنه واضح لمن صرف حق فهمه . ففرع على ذلك كله تعجيب من انحراف أفهامهم
فالذي تولى وأعطى قليلا هو هنا ليس فريقا مثل الذي عناه قوله { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا } بل هو شخص بعينه . واتفق المفسرون والرواة على أن المراد به هنا معين ولعل ذلك وجه التعبير عنه بلفظ { الذي } دون كلمة { من } لأن { الذي } أظهر في الإطلاق على الواحد المعين دون لفظ { من } . واختلفوا في تعيين هذا { الذي تولى وأعطى قليلا } فروى الطبري والقرطبي عن مجاهد وابن زيد أن المراد به الوليد بن المغيرة قالوا : كان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويستمع إلى قراءته وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظه فقارب أن يسلم فعاتبه رجل من المشركين { لم يسموه } وقال : لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار كان ينبغي أن تنصرهم فكيف يفعل بآبائك فقال : { إني خشيت عذاب الله } فقال : { اعطني شيئا وأنا أحمل عنك كل عذاب كان عليك } فأعطاه { ولعل ذلك كان عندهم التزاما يلزم ملتزمه وهم لا يؤمنون بجزاء الآخرة فلعله تفادى من غضب الله في الدنيا ورجع إلى الشرك } ولما سأله الزيادة بخل عنه وتعاسر وأكدى
وروى القرطبي عن السدي : أنها نزلت في العاصي بن وائل السهمي وعن محمد بن كعب : نزلت في أبي جهل وعن الضحاك : نزلت في النضر بن الحارث
ووقع في أسباب النزول للواحدي والكشاف أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي السرح حين صد عثمان بن عفان عن نفقة في الخير كان ينفقها « أي قبل أن يسلم عبد الله بن سعد » رواه الثعلبي عن قوم . قال ابن عطية : وذلك باطل وعثمان منزه عن مثله, أي عن أن يصغي إلى أنه تولى عن النظر في الإسلام بعد أن قاربه
وأشار قوله { وأعطى قليلا وأكدى } إلى ما أعطاه للذي يحمله عنه العذاب
وليس وصفه ب { تولى } داخلا في التعجيب ولكنه سيق مساق الذم ووصف عطاؤه بأنه قليل توطئة لذمه بأنه مع قلة ما أعطاه قد شح به فقطعه . وأشار قوله { وأكدى } إلى بخله وقطعه العطاء يقال : أكدى الذي يحفر إذا اعترضته كدية أي حجر لا يستطيع إزالته . وهذه مذمة ثانية بالبخل زيادة على بعد الثبات على الكفر فحصل التعجيب من حال الوليد كله تحقيرا لعقله وأفن رأيه . وقيل المراد بقوله { وأعطى قليلا } أنه أعطى من قبله وميله للإسلام قليلا وأكدى أي انقطع بعد أن اقترب كما يكدى حافر البئر إذا اعترضته كدية