{ اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً } . وذلك أنهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكلة أطعمهم إياها أبو سفيان ، قال مجاهد : أطعم أبو سفيان حلفاءه .
قوله تعالى : { فصدوا عن سبيله } . فمنعوا الناس من الدخول في دين الله . وقال ابن عباس رضي الله عنه : وذلك إن أهل الطائف أمدوهم بالأموال سيقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { إنهم ساء } . بئس { ما كانوا يعملون } .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك السبب الأصيل الذي جعل الغدر ديدنهم ، والحقد على المؤمنين دأبهم فقال : { اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
والمراد بالاشتراء هنا الاستبدال والاستيعاض .
والمراد بآيات الله : كل ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من آيات قرآنية ، ومن تعاليم سامية تهدى إلى الخير والفلاح .
والمعنى ؛ إن السبب الأصيل الذي حمل هؤلاء المشركين على الغدر ، وعلى الفجور والطغيان عند القوة وعلى المداهنة والمخادعة عند الضعف . هو أنهم استبدلوا بآيات الله المتضمنة لكل خير وفلاح . . ثمنا قليلا . أى : عرضا حقيرا من أعراض الدنيا وزخارفها .
وليس وصف الثمن بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات . بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات . لأن كل ثمن يؤخذ في مقابل آيات الله فهو قليل وإن بلغ ما بلغ من اعراض الدنيا وزينتها .
وقوله : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } بيان لما ترتب على استبدالهم بآيات الله ثمنا قليلا .
والصد : المنع والحيلولة بين الشيء وغيره ، ويستعمل لازما فيقال : صد فلان عن الشئ صدودا بمعنى أعرض عنه . ويستعمل متعديا فيقال : صده عنه إذا صرفه عن الشئ .
وهنا تصح إرادة المعنيين فيكون التقدير : أن هؤلاء المشركين قد اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، يترتب على ذلك أن أعرضوا عن طريق الله الواضحة المستقيمة التي جاء بها نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - يترتب على ذلك أن أعرضوا عن طريق الله الواضحة المستقيمة التي جاء بها نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكتفوا بهذا بل صرفوا غيرهم عنها ، ومنعوه من الدخول فيها .
وقوله : { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تذليل قصد به بيان سوء عاقبتهم ، وقبح أعمالهم .
أى : إنهم ساء وقبح عملهم الذي كانوا يعملون من اشترائهم بآيات الله ثمنا قليلا ، ومن صدودهم عن الحق وصدهم لغيهرم عنه . . وسيجازيهم الله على ذلك بما يستحقونه عن عقاب شديد .
( اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )
وهذا هو السبب الأصيل لهذا الحقد الدفين عليكم ، وإضمار عدم الوفاء بعهودكم ، والانطلاق في التنكيل بكم - لو قدروا - من كل تحرج ومن كل تذمم . . إنه الفسوق عن دين الله ، والخروج عن هداه ، فلقد آثروا على آيات الله التي جاءتهم ثمنا قليلا من عرض هذه الحياة الدنيا يستمسكون به ويخافون فوته . وقد كانوا يخافون أن يضيع عليهم الإسلام شيئا من مصالحهم ؛ أو أن يكلفهم شيئا من أموالهم ! فصدوا عن سبيل الله بسبب شرائهم هذا الثمن القليل بآيات الله . صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم [ فسيجيء أنهم أئمة الكفر ] . . أما فعلهم هذا فهو الفعل السيء الذي يقرر الله سوءه الأصيل :
( إنهم ساء ما كانوا يعملون ! ) . .
ثم إنهم لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم ؛ ولا يتبعون تلك الخطة المنكرة معكم بذواتكم . . إنهم يضطغنون الحقد لكل مؤمن ؛ ويتبعون هذا المنكر مع كل مسلم . . إنهم يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها . . للإيمان ذاته . . كما هو المعهود في كل أعداء الصفوة الخالصة من أهل هذا الدين ، على مدار التاريخ والقرون . . فكذلك قال السحرة لفرعون وهو يتوعدهم بأشد أنواع التعذيب والتنكيل والتقتيل : ( وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ) . . وكذلك قال رسول الله [ ص ] لأهل الكتاب بتوجيه من ربه : ( قل : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ? )وقال سبحانه عن أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) . فالإيمان هو سبب النقمة ، ومن ثم هم يضطغنون الحقد لكل مؤمن ، ولا يراعون فيه عهدا ولا يتذممون من منكر :
القول في تأويل قوله تعالى : { اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : ابتاع هؤلاء المشركون الذين أمركم الله أيها المؤمنون بقتلهم حيث وجدتموهم بتركهم اتباع ما احتجّ الله به عليهم من حججه يسيرا من العوض قليلاً من عرض الدنيا وذلك أنهم فيما ذكر عنهم كانوا نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكلة أطعمهموها أبو سفيان بن حرب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : اشْتَرُوا بآياتِ اللّهِ ثَمَنا قَلِيلاً قال : أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه ، وترك حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله . وأما قوله : فَصَدّوا عَنْ سَبِيلِهِ فإن معناه : فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام ، وحاولوا ردّ المسلمين عن دينهم . إنّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْلَمُونَ يقول جلّ ثناؤه : إن هؤلاء المشركين الذين وصفت صفاتهم ، ساء عملهم الذي كانوا يعملون من اشترائهم الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى ، وصدّهم عن سبيل الله من آمن بالله ورسوله أو من أراد أن يؤمن .
وقوله تعالى : { اشتروا بآيات الله } الآية اللازم من ألفاظ هذه الآية أن هذه الطائفة الكافرة الموصوفة بما تقدم لما تركت آيات الله ودينه وآثرت الكفر وحالها في بلادها كل ذلك كالشراء والبيع ، لما كان ترك قد مكنوا منه وأخذ لما يمكن نبذه ، وهذه نزعة مالك رحمه الله في منع اختيار المشتري فيما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز التفاضل فيه{[5535]} ، وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة وقوله { فصدوا عن سبيله } يريد صدوا أنفسهم وغيرهم ، ثم حكم عليهم بأن عملهم سيء ، و { ساء } في هذه الآية إذ لم يذكر مفعولها يحتمل أن تكون مضمنة كبئس ، فأما إذا قلت ساءني فعل زيد فليس تضمين بوجه ، وإن قدرت في هذه الآية مفعولاً زال التضمين ، وروي أن أبا سفيان بن حرب جمع بعض العرب على طعام وندبهم إلى وجه من وجوه النقض فأجابوا إلى ذلك فنزلت الآية ، وقال بعض الناس : هذه في اليهود .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول وإن كانت ألفاظ هذه الآية تقتضيه فما قبلها وما بعدها يرده ويتبرأ منه ، ويختل أسلوب القول به .
موقع هذه الجملة موقع الاستئناف الابتدائي المشعر استئنافه بعجيب حالهم فيصد استقلاله بالإخبار . وهذه الآية وصفَ القرآن فيها المشركين بمثل ما وصف به أهل الكتاب في سورة البقرة : من الاشتراء بآيات الله ثمناً قليلاً ، ثم لم يوصفوا بمثل هذا في آيةٍ أخرى نزلت بعدها لأنّ نزولها كان في آخر عهد المشركين بالشرك إذ لم تطل مدة حتّى دخلوا في دين الله أفواجاً ، سنةَ الوفود وما بعدها ، وفيها دلالة على هؤلاء الذين بقُوا على الشرك من العرب ، بعد فتح مكة وظهور الإسلام على معظم بلاد العرب ، ليس لهم افتراء في صحة الإسلام ونهوض حجّته ، ولكنه بقُوا على الشرك لمنافع يجتنونها من عوائِد قومهم : من غارات يشنّها بعضهم على بعض ، ومحبّة الأحوالِ الجاهلية من خمر وميسر وزنى ، وغير ذلك من المَذمات واللذّات الفائدة ، وذلك شيء قليل « آثروه على الهدى والنجاة في الآخرة . فلكون آيات صدق القرآن أصبحت ثابتة عندهم جعلت مِثل مال بأيديهم ، بذلوه وفرّطوا فيه لأجل اقتناء منافع قليلة ، فلذلك مُثّل حالهم بحال من اشترى شيئاً بشيء ، وقد مضى الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة ( 16 ) .
والمراد ب« الآيات » الدلائل ، وهي دلائل الدعوة إلى الإسلام ، وأعظمها القرآن لما اشتمل عليه من البراهين والحجاج والإعجاز والباء في قوله : { بآيات الله } باء التعويض . وشأنها أن تدخل على ما هو عوض يبذله مالكه لأخذ معوّض يملكه غيره ، فجعلت آيات الله كالشيء المملوك لهم لأنها تقررت دلالتها عندهم ثم أعرضوا عنها واستبدلوها باتّباع هواهم .
والتعبير عن العوض المشترى باسم ثمن الذي شأنه أن يكون مبذولاً لا مقتنى جارٍ على طريق الاستعارة تشبيهاً لمنافع أهوائهم بالثمن المبذول فحصُل من فعل { اشتروا } ومن لفظ { ثمناً } استعارتان باعتبارين .
وجملة : { فصدوا عن سبيله } مفرّعة على جملة { اشتروا بآيات الله } لأنّ إيثارهم البقاء على كفرهم يتسبّب عليه أن يصدّوا الناس عن اتّباع الإسلام ، فمثّل حالهم بحال من يصدّ الناس عن السير في طريق تبلّغ إلى المقصود .
ومفعول { صدّوا } محذوف لقصد العموم ، أي : صدّوا كل قاصد .
وجملة : { إنهم ساء ما كانوا يعملون } ابتدائية أيضاً ، فصلت عن التي قبلها ليظهر استقلالها بالإخبار ، وأنّها لا ينبغي أن تعطف في الكلام ، إذ العطف يجعل الجملة المعطوفة بمنزلة التكملة للمعطوفة عليها .
وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الذم لهم .
و { ساء } من أفعال الذم ، من باب بئس ، و { ما كانوا يعملون } مخصوص بالذم .
وعبّر عن عملهم ب { كَانوا يعملون } للإشارة إلى أنّه دأب لهم ومتكرّر منهم .