قوله تعالى : { قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم*سيقولون لله } قرأ العامة ( ( لله ) ) ومثله ما بعده ، فجعلوا الجواب على المعنى ، كقول القائل للرجل : من مولاك ؟ فيقول : لفلان ، أي أنا لفلان وهو مولاي . وقرأ أهل البصرة فيها ( ( الله ) ) وكذلك هو في مصحف أهل البصرة ، وفي سائر المصاحف ، مكتوب بالألف كالأول ، { قل أفلا تتقون } تحذرون .
{ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي : سيقرون بأن الله رب ذلك كله . قل لهم حين يقرون بذلك : { أَفَلَا تَتَّقُونَ } عبادة المخلوقات العاجزة ، وتتقون الرب العظيم ، كامل القدرة ، عظيم السلطان ؟ وفي هذا من لطف الخطاب ، من قوله : { أَفَلَا تذكرون } { أفلا تَتَّقُونَ } والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب ، ما لا يخفى
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَن رّبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَرَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتّقُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد : من ربّ السموات السبع ، وربّ العرش المحيط بذلك ؟ سيقولون : ذلك كله لله ، وهو ربه . فقل لهم : أفلا تتقون عقابه على كفركم به وتكذيبكم خبره وخبر رسوله ؟
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : سَيَقُولُونَ لِلّهِ فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق والشام : سَيَقُولُونَ لِلّهِ سوى أبي عمرو ، فإنه خالفهم فقرأه : «سَيَقُولُونَ اللّهُ » في هذا الموضع ، وفي الاَخر الذي بعده ، اتباعا لخط المصحف ، فإن ذلك كذلك في مصاحف الأمصار إلاّ في مصحف أهل البصرة ، فإنه في الموضعين بالألف ، فقرءوا بالألف كلّها اتباعا لخط مصحفهم . فأما الذين قرءوه بالألف فلا مؤنة في قراءتهم ذلك كذلك ، لأنهم أجروا الجواب على الابتداء وردّوا مرفوعا على مرفوع . وذلك أن معنى الكلام على قراءتهم : قل من ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم ؟ سيقولون ربّ ذلك الله . فلا مؤنة في قراءة ذلك كذلك . وأما الذين قرءوا ذلك في هذا والذي يليه بغير ألف ، فإنهم قالوا : معنى قوله قُلْ مَنْ رَبّ السّمَوَاتِ لمن السموات ؟ لمن ملك ذلك ؟ فجعل الجواب على المعنى ، فقيل : لله لأن المسألة عن ملك ذلك لمن هو ؟ قالوا : وذلك نظير قول قائل لرجل : مَن مولاك ؟ فيجيب المجيب عن معنى ما سئل ، فيقول : أنا لفلان لأنه مفهوم بذلك من الجواب ما هو مفهوم بقوله : مولاي فلان . وكان بعضهم يذكر أن بعض بني عامر أنشده :
وأعْلَمُ أنّنِي سأكُونُ رَمْسا *** إذَا سارَ النّوَاجِعُ لا يَسِيرُ
فَقالَ السّائِلُونَ لَمِنْ حَفَرْتُمْ *** فَقالَ المُخْبِرُونَ لَهُمْ : وَزِيرُ
فأجاب المخفوض بمرفوع ، لأن معنى الكلام : فقال السائلون : من الميت ؟ فقال المخبرون : الميت وزير فأجابوا عن المعنى دون اللفظ .
والصواب من القراءة في ذلك أنهما قراءتان قد قرأ بهما علماء من القرّاء ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . غير أني مع ذلك أختار قراءة جميع ذلك بغير ألف ، لإجماع خطوط مصاحف الأمصار على ذلك سوى خط مصحف أهل البصرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 86]
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: من ربّ السموات السبع، وربّ العرش المحيط بذلك؟ سيقولون: ذلك كله لله، وهو ربه. فقل لهم: أفلا تتقون عقابه على كفركم به وتكذيبكم خبره وخبر رسوله؟
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" أفلا تتقون "الله، ولا تخافون عقابه على جحد توحيده والإشراك في عبادته؟!
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 82]
قوله: {لَقَدْ وُعِدْنَا} لمَّا طال عليهم وقتُ الحشر، وما توعدهم به من العذاب بعد البعث والنَّشْر زَادَ ذلك في ارتيابهم، وجعلوا ذلك حُجَّةً في لَبْسِهم واضطرابهم، فقالوا: لقد وُعِدْنا مثل هذا نحن وآباؤنا، ثم لم يكن لذلك تحقيق؛ فما نحن إلاَّ أمثالُهم. فاحتجَّ اللَّهُ عليهم في جواز الحشر بما أقروا به من ابتداء الخَلْق: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أمَرَه -عليه السلام- أَنْ يُلَوِّنَ عليهم الأسئلة، وعَقَّبَ كُلُّ واحدٍ من ذلك -مُخْبِراً عنهم- أنهم سيقولون: لله، ثم لم يَكْتَفِ منهم بقالتهم تلك، بل عاتَبَهم على تجرُّدِ قولهم عن التَّذَكُّر والفَهْمِ والعلم، تنبيهاً على أن القول -وإن كان في نفسه صدقاً- فلم تكن فيه غنية؛ إذ لم يصدر عن علمٍ ويقينٍ. ثم نَبَّهَهُمْ على كمالِ قدرته، وأنَّ القدرة القديمة إذا تعلَّقت بمقدورٍ له ضدٌّ تعلَّقَت بضدِّه، ويتعلق بمثل متعلقه.
ثم قال بعده: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} فَقَدَّمَ التذكُرَ على التقوى؛ لأنهم بتذكرهم يَصلُون إلى المعرفة، ثم بعد أن يعرفوه فإنهم يجب عليهم اتقاءُ مخالفته.
وإنما قال: {أفلا تتقون} تنبيها على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان والاعتراف بجواز الإعادة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تأكد الأمر وزاد الوضوح، حسن التهديد على التمادي فقال: {قل} منكراً عليهم عدم تسبيبه لهم التقوى: {أفلا تتقون} أي تجعلون بينكم وبين حلول السخط من هذا الواسع الملك التام القدرة وقاية بالمتاب من إنكار شيء يسير بالنسبة إلى هذا الملك العظيم هين عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والعرش رمز للاستعلاء والهيمنة على الوجود.. فمن هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟ (سيقولون: لله) ولكنهم مع ذلك لا يخافون صاحب العرش، ولا يتقون رب السماوات السبع، وهم يشركون معه أصناما مهينة، ملقاة على الأرض لا تريم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وخص وعظهم عقب جوابهم بالحث على تقوى الله لأنه لما تبين من الآية التي قبلها أنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله مالك الأرض ومن فيها وعقبت تلك الآية بحظهم على التذكر ليظهر لهم أنهم عباد الله لا عباد الأصنام. وتبين من هذه الآية أنه رب السماوات وهي أعظم من الأرض وأنهم لا يسعهم إلاّ الاعتراف بذلك ناسب حثهم على تقواه لأنه يستحق الطاعة له وحده وأن يطيعوا رسوله فإن التقوى تتضمن طاعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 86]
والربوبية تقتضي: أولا الخلق والتكوين. وتقتضي ثانيا الإمداد برحمته. وتقتضي ثالثا الرقابة عليه والتنظيم له، والتسيير له، والقيام على شئونه، والسموات وصفها بأنها سبع، ثم قال تعالى: {وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، أي صاحب السلطان العظيم المهيمن على الوجود كله...
ويلاحظ أنه تكرر لفظ الرب في قوله تعالى: {مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ونقول: إن التكرار لتغاير معنى الربوبية، ففي الأولى السؤال عن الخالق، والمنمي، والقائم بالتدبير، والتسيير، والثاني معنى الربوبية السلطان والحكم، {قل أَفَلَا تَتَّقُونَ} الأمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ليقنعهم بخلق الله مع استحقاقه وحده العبودية {أَفَلَا تَتَّقُونَ} (الفاء) كما ذكرنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه إذا كان يجب عليهم أن يتقوا الله ويجعلوا وقاية بينهم وبين عذابه، ما دام هو رب هذا الوجود كله، ورب السلطان فيه وحده، وهو الذي يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء.
فما دام الأمر كذلك وما دمتم تعترفون بأن لله ملك السماوات والأرض، وله العرش العظيم، فلماذا لا تتقون هذا الإله؟ لماذا تتمردون على منهجه؟ إن هذا الكون كله بما فيه خلق لخدمتك، أفلا يلفتك هذا إلى الصانع المنعم...
ومعنى: {أفلا تتقون} الاتقاء: أن تجعل بينك وبين صفات الجلال من الله وقاية...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} غضبه إذا انحرفتم عن خط الإيمان، وتحركتم في مواقع الكفر، وسخرتم برسله وبرسالاته، وبوعده ووعيده، وتمردتم على أوامره ونواهيه.. فمن ينصركم منه في يوم الحساب؟ ثم ألا تتقون التقوى الفكرية التي تدفعكم إلى الإحساس بمسؤولية الفكر في حركته لاكتشاف حقائق الكون والعقيدة، لتفهموا من عمق النظرة، أن الذي يملك الأرض ومن فيها، والسموات السبع والعرش العظيم، لا يعجزه أن يعيد الميت إلى الحياة، وأن يحوّل التراب والعظام إلى كائناتٍ حيّةٍ من جديد كما بدأها أول مرّة عندما أعطاها الحياة؟!