ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة ، بتثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم ، وتسليته عما أصابه من أعدائه فقال : { والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } أى القرآن الكريم { هُوَ الحق } الثابت الذى لا يحوم حوله باطل .
{ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أى : أن من صفات هذا القرآن أنه مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية . كالتوراة والإِنجيل .
{ إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } أى : إن الله - تعالى - لمحيط إحاطة تامة بأحوال عباده ، مطلع على ما يسرونه وما يلعنونه من أقوال أو أفعال .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت ألواناً من الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وأثنت على العلماء ، وعلى التالين للقرآن الكريم ، والمحافظين على أداء ما كلفهم الله - تعالى - ثناء عظيماً .
يقول تعالى : { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يا محمد من الكتاب ، وهو القرآن { هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المتقدمة يصدقها ، كما شهدت{[24526]} له بالتنويه{[24527]} ، وأنه منزل من رب العالمين .
{ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي : هو خبير بهم ، بصير بمن يستحق ما يفضله به على مَنْ سواه . ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر ، وفضل النبيين بعضهم على بعض ، ورفع بعضهم درجات ، وجعل منزلة محمد صلى الله عليه وسلم فوق جميعهم ، صلوات الله عليهم أجمعين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنّ اللّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : وَالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ يا محمد ، وهو هذا القرآن الذي أنزله الله عليه هُوَ الحَقّ يقول : هو الحقّ عليك وعلى أمتك أن تعمل به ، وتتبع ما فيه دون غيره من الكتب التي أُوحيت إلى غيرك مُصَدّقا لِمَا بَينَ يَدَيْهِ يقول : هو يصدّق ما مضى بين يديه ، فصار أمامه من الكتب التي أنزلتها إلى من قبلك من الرسل ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ هُوَ الحَقّ مُصَدّقا لِمَا بينَ يَدَيْهِ للكتب التي خلت قبله .
وقوله : إنّ اللّهَ بِعِبادِهِ لخَبِيرٌ بَصِيرٌ يقول تعالى ذكره : إن الله بعباده لذو علم وخبرة بما يعملون بصير بما يصلحهم من التدبير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
إن قرآن محمد صلى الله عليه وسلم يصدق ما قبله من الكتب التي أنزلها الله عز وجل على الأنبياء عليهم السلام.
{إن الله بعباده لخبير} بأعمالهم {بصير} بها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَالّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ" يا محمد، وهو هذا القرآن الذي أنزله الله عليه "هُوَ الحَقّ "يقول: هو الحقّ عليك وعلى أمتك أن تعمل به، وتتبع ما فيه دون غيره من الكتب التي أُوحيت إلى غيرك "مُصَدّقا لِمَا بَينَ يَدَيْهِ" يقول: هو يصدّق ما مضى بين يديه، فصار أمامه من الكتب التي أنزلتها إلى من قبلك من الرسل...
وقوله: "إنّ اللّهَ بِعِبادِهِ لخَبِيرٌ بَصِيرٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله بعباده لذو علم وخبرة بما يعملون بصير بما يصلحهم من التدبير.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"هو الحق" معناه هو الصحيح الذي معتقده على ما هو به، وضده الباطل، وهو ما كان معتقده لا على ما هو به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مُصَدّقاً} حال مؤكدة؛ لأنّ الحق لا ينفك عن هذا التصديق.
{لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} يعني أنه خبرك وأبصر أحوالك، فرآك أهلاً لأن يوحي إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب.
لما بين الأصل الأول وهو وجود الله الواحد بأنواع الدلائل من قوله: {والله الذي أرسل الرياح} وقوله: {والله خلقكم} وقوله: {ألم تر أن الله أنزل} ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال: {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق}.
وأيضا كأنه قد ذكر أن الذين يتلون كتاب الله يوفيهم الله: {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق} تقريرا لما بين من الأجر والثواب في تلاوة كتاب الله فإنه حق وصدق، فتاليه محق ومحقق، وفي تفسيرها مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {من الكتاب} يحتمل أن يكون لابتداء الغاية كما يقال أرسل إلى كتاب من الأمير أو الوالي وعلى هذا فالكتاب يمكن أن يكون المراد منه اللوح المحفوظ، يعني الذي أوحينا من اللوح المحفوظ إليك حق، ويمكن أن يكون المراد هو القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليك من القرآن ويحتمل أن يكون للبيان كما يقال أرسل إلى فلان من الثياب والقماش جملة.
المسألة الثانية: قوله: {هو الحق} آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين:
أحدهما: أن تعريف الخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور؛ لأن الخبر في الأكثر يكن نكرة، لأن الإخبار في الغالب يكون إعلاما بثبوت أمر لا معرفة للسامع به لأمر يعرفه السامع ...
المسألة الثالثة:... {مصدقا} تقرير لكونه وحيا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يكن قارئا كاتبا وأتى ببيان ما في كتب الله، لا يكون ذلك إلا من الله تعالى، وجواب عن سؤال الكفار وهو أنهم كانوا يقولون بأن التوراة ورد فيها كذا والإنجيل ذكر فيه كذا وكانوا يفترون من التثليث وغيره، وكانوا يقولون بأن القرآن فيه خلاف ذلك.
وفيه وجه آخر: وهو أن يقال إن هذا الوحي مصدق لما تقدم؛ لأن الوحي لو لم يكن وجوده، لكذب موسى وعيسى عليهما السلام في إنزال التوراة والإنجيل.
وعلى هذا ففيه لطيفة: وهي أنه تعالى جعل القرآن مصدقا لما مضى مع أن ما مضى أيضا مصدق له؛ لأن الوحي إذا نزل على واحد، جاز أن ينزل على غيره، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل ما تقدم مصدقا للقرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي، وأما ما تقدم فلا بد معه من معجزة تصدقه.
المسألة الرابعة: قوله: {إن الله بعباده لخبير بصير} فيه وجهان: أحدهما أنه تقرير لكونه هو الحق لأنه وحي من الله، والله خبير عالم بالبواطن بصير عالم بالظواهر، فلا يكون باطلا في وحيه لا في الباطن ولا في الظاهر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت ترجمة الآية أن العلماء هم حملة الكتاب، وبدأ سبحانه بأدنى درجاتهم، وكان ذلك مما يرغب في الكتاب، أتبعه ترغيباً هو أعلى منه، فقال عاطفاً على قوله في تقرير الأصل الثاني الذي هو الرسالة {إنا أرسلناك بالحق} [البقرة: 119] وأكده دفعاً لتكذيب المكذبين به: {والذي أوحينا} أي بما لنا من العظمة {إليك} وبين قدره بمظهر العظمة وقال مبيناً للوحي: {من الكتاب} أي الجامع لخيري الدارين.
ولما كان الكتاب لا يطرقه نوع من أنواع التغير لأنه صفة من لا يتغير قال: {هو الحق} أي الكامل في الثبات ومطابقة الواقع له لا غيره من الكلام؛ وأكد حقيته بقوله: {مصدقاً لما بين يديه}.
{إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال، ولما كان الإنسان أعلم بمن يربيه ولا سيما إن كان مالكاً له قال: {بعباده لخبير} أي عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم {بصير} أي بظواهر أمورهم وبواطنها أي فهو يسكن الخشية والعلم القلوب على ما أوتوا من الكتاب في علمه وتلاوته، وإن تراءى لهم خلاف ذلك، فأنت أحقهم بالكمال لأنك أخشاهم وأتقاهم، فلذلك آتيناك هذا الكتاب، فأخشاهم بعدك أحقهم بعلمه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{هُوَ الْحَقُّ} من كثرة ما اشتمل عليه من الحق، كأن الحق منحصر فيه، فلا يكن في قلوبكم حرج منه، ولا تتبرموا منه، ولا تستهينوا به، فإذا كان هو الحق، لزم أن كل ما دل عليه من المسائل الإلهية والغيبية وغيرها، مطابق لما في الواقع، فلا يجوز أن يراد به ما يخالف ظاهره وما دل عليه...
{إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} فيعطي كل أمة وكل شخص، ما هو اللائق بحاله. ومن ذلك، أن الشرائع السابقة لا تليق إلا بوقتها وزمانها، ولهذا، ما زال اللّه يرسل الرسل رسولا بعد رسول، حتى ختمهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، فجاء بهذا الشرع، الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم القيامة، ويتكفل بما هو الخير في كل وقت...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يوحي للبشر بشكر المنعم. تشبهاً واستحياء. فإذا كان هو يشكر لعباده حسن الأداء أفلا يشكرون له هم حسن العطاء؟! ثم إشارة إلى طبيعة الكتاب، وما فيه من الحق، تمهيداً للحديث عن ورثة هذا الكتاب، ودلائل الحق في هذا الكتاب واضحة في صلبه؛ فهو الترجمة الصحيحة لهذا الكون في حقيقته، أو هو الصفحة المقروءة والكون هو الصفحة الصامتة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما كان المبدأ به من أسباب ثواب المؤمنين هو تلاوتهم كتاب الله أعقب التنويه بهم بالتنويه بالقرآن للتذكير بذلك، ولأن في التذكير بجلال القرآن وشرفه إيماء إلى علة استحقاق الذين يتلونه ما استحَقوا.
وابتدئ التنويه به بأنه وحي من الله إلى رسوله، وناهيك بهذه الصلة تنويهاً بالكتاب، وهو يتضمن تنويهاً بشأن الذي أنزل عليه من قوله: {والذي أوحينا إليك} ففي هذا مسرة للنبيء صلى الله عليه وسلم وبشارة له بأنه أفضل الرسل وأن كتابه أفضل الكتب، وهذه نكتة تعريف المسند إليه باسم الموصول لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه كونه الحق الكامل، دون الإِضمار الذي هو مقتضى الظاهر بأن يقال: وهو الكتاب الحق، فالتعريف في {الكتاب} تعريف العهد، و {مِن} بيانية لما في الموصول من الإِبهام، والتقدير: والكتاب الذي أوحينا إليك هو الحقّ، فقدم الموصول الذي حقه أن يَقع صفة للكتاب تقديماً للتشويق بالإِبهام؛ ليقع بعده التفصيل فيتمكن من الذهن فضْلَ تمكن، فجملة {والذي أوحينا إليك من
الكتاب} معطوفة على جملة {إن الذين يتلون كتاب الله} [فاطر: 29] فهي مثلها في حكم الاستئناف.
{هو} ضمير فصل، وهو تأكيد لما أفاده تعريفَ المسند من القصر،والتعريف في
{الحق} تعريف الجنس، وأفاد تعريفُ الجزأين قصر المسند على المسند إليه، أي قصر جنس الحق على {الذي أوحينا إليك}، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بحقيّة ما عداه من الكتب...
{إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لخبير بصير} تذييل جامع لما تضمنته الآيات قبله...
الخبير: العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية.
البصير: العالم بالأمور المبصرة، وتقديم الخبير على البصير لأنه أشمل، وذكر البصير عقبه للعناية بالأعمال التي هي من المبصرات وهي غالب شرائع الإِسلام، والتأكيد ب {إنَّ} واللام للاهتمام بالمقصود من هذا الخبر...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لأجل توضيح موقع القرآن الكريم، تمّت الاستفادة هنا من كلمة «الحقّ»، في حال أنّه في آيات أخرى من القرآن الكريم ورد التعبير عنه ب «النور» و «البرهان» و «الفرقان» و «الذكر» و «الموعظة» و «الهدى»، وكلّ واحدة منها تشير إلى واحدة من بركات القرآن وأبعاده، بينما كلمة (الحقّ) تشمل جميع تلك البركات...
يقول الراغب في (مفرداته): أصل الحقّ المطابقة والموافقة، والحقّ يقال على أوجه:
الأوّل: يقال لمن يوجد الشيء على أساس الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقّ، لذا قال الله: (فذلكم الله ربّكم الحقّ).
الثّاني: يقال للشيء الذي وُجد بحسب مقتضى الحكمة، ولهذا يقال فِعلُ الله تعالى كلّه حقّ، قال تعالى: (ما خلق الله ذلك إلاّ بالحقّ)، أي الشمس والقمر وغير ذلك. الثّالث: في العقائد المطابقة للواقع. قال تعالى: (فهدى الله الذين آمنوا لمّا اختلفوا فيه من الحقّ).
والرّابع: يقال للأقوال والأفعال الصادرة وفقاً لما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت المقرّر، كقولنا: فعلك حقّ، وقولك حقّ. وبناءً عليه، فإنّ حقّانية القرآن المجيد هي من حيث كونه حديثاً مطابقاً للمصالح والواقعيات من جهة، كما أنّ العقائد والمعارف الموجودة فيه تنسجم مع الواقع من جهة اُخرى، ومن جهة ثالثة فإنّه من نسج الله وصنعه الذي صنعه على أساس الحكمة، والله ذاته تعالى الذي هو الحقّ يتجلّى في ذلك الكتاب العظيم، والعقل يصدق ويؤمن بما هو حقّ...