السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ هُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِۦ لَخَبِيرُۢ بَصِيرٞ} (31)

ولما بين تعالى الأصل الأول وهو وجود الله تعالى الواحد بالدلائل في قوله تعالى { الله الذي يرسل الرياح } وقوله تعالى { والله خلقكم } وقوله تعالى { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله تعالى : { والذي أوحينا } أي : بما لنا من العظمة { إليك من الكتاب } أي : الجامع خيري الدارين .

تنبيه : «من الكتاب » يجوز أن تكون من للبيان كما يقال : أرسل إلى فلان من الثياب جملة ، وأن تكون للجنس ، وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال : جاءني كتاب من الأمير ، وعلى كل فالكتاب يمكن أن يراد به اللوح المحفوظ يعني : الذي أوحينا من اللوح المحفوظ { هو الحق } أي : الكامل في الثبات ومطابقة الواقع ، ويمكن أن يراد به القرآن وهو ما اقتصر عليه الجلال المحلي يعني : الإرشاد والتبيين اللذين أوحينا إليك من القرآن ، ويمكن أن تكون من للتبعيض وهو فصل أو مبتدأ وقوله تعالى { مصدقاً لما بين يديه } أي : لما تقدمه من الكتب حال مؤكدة ؛ لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق وهذا تقرير لكونه وحياً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يكن قارئاً كاتباً وأتى ببيان ما في كتاب الله لا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى ، فإن قيل : لم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن ؟ أجيب : بأن القرآن كونه معجزة يكفي تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بد فيه من معجزة تصدقه .

تنبيه : قوله تعالى { هو الحق } آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين : أحدهما : أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور ؛ لأن الخبر في الأكثر يكون نكرة . الثاني : أن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا : زيد قام فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً ولا يعلم قيامه فيخبر به ، فإذا كان الخبر معلوماً فتكون الأخبار للنسبة فتعرف باللام كقولنا : إن زيداً العالم في هذه المدينة إذا كان علمه مشهوراً .

{ إن الله } أي : الذي له جميع صفات الكمال { بعباده لخبير } أي : عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم { بصير } أي : بظواهر أمورهم وبواطنها أي : فهو يسكن الخشية والعلم في القلوب على قدر ما أوتوا من الكتاب في علمه ، فأنت أحقهم بالكمال ؛ لأنك أخشاهم وأتقاهم فلذلك آتيناك هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب ، وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية .