وهنا يرد عليهم المستكبرون ، بضيق وملل . ويحكى القرآن ذلك فيقول { قَالَ الذين استكبروا } أى للضعفاء .
{ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ } أى : إنا نحن وأنتم جميعا فى جهنم ، فكيف ندفع عنكم شيئا من العذاب ، وإنننا لو كانت عندنا القدرة على دفع شئ من العذاب ، لدفعناه عن أنفسنا .
لفظ { كل } مبتدأ ، وفيها متعلق بمحذوف خبر ، والجملة من المبتدأ والخبر ، خبر إن .
وجملة : { إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد } من جملة الرد ، أى : إن الله - تعالى - قد حكم بين العباد بحكمه العادل ، فجعل للمؤمنين الجنة ، وجعل للكافرين النار وقدر لكل منا ومنكم عذابا لا تغنى فيه نفس عن نفس شيئا .
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } أي : لا نتحمل عنكم شيئا ، كفى بنا ما عندنا ، وما حملنا من العذاب والنكال . { إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } أي : يقسم{[25534]} بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا ، كما قال تعالى : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [ الاعراف : 38 ] .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَأنْذِرْهُم يَوْمَ الاَزِفَةِ إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَناجِرِ كاظِمِينَ ، وإذْ يَتَحاجّونَ في النّارِ يقول : وإذ يتخاصمون في النار . وعني بذلك : إذ يتخاصم الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنذارهم من مشركي قومه في النار ، فيقول الضعفاء منهم وهم المتبعون على الشرك بالله إنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعا تقول لرؤسائهم الذين اتبعوهم على الضلالة : إنا كنا لكم في الدنيا تبعا على الكفر بالله فَهَلْ أنْتُمْ مغْنُونَ اليوم عَنّا نَصِيبا مِن النّارِ يعنون حظا فتخففوه عنا ، فقد كنا نسارع في محبتكم في الدنيا ، ومن قبلكم أتينا ، لولا أنتم لكنا في الدنيا مؤمنين ، فلم يصبنا اليوم هذا البلاء والتبع يكون واحدا وجماعة في قول بعض نحويي البصرة ، وفي قول بعض نحويي الكوفة جمع لا واحد له ، لأنه كالمصدر . قال : وإن شئت كان واحدة تابع ، فيكون مثل خائل وخول ، وغائب وغيب .
والصواب من القول في ذلك عندي أنه جمع واحده تابع ، وقد يجوز أن يكون واحدا فيكون جمعه أتباع . فأجابهم المتبوعون بما أخبر الله عنهم قال الذين استكبروا ، وهم الرؤساء المتبوعون على الضلالة في الدنيا : إنا أيها القوم وأنتم كلنا في هذه النار مخلدون ، لا خلاص لنا منها إنّ اللّهَ قَدْ حَكَمَ بَينَ العِبادِ بفصل قضائه ، فأسكن أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فلا نحن مما نحن فيه من البلاء خارجون ، ولا هم مما فيه من النعيم منتقلون ورفع قوله كُلّ بقوله فِيها ولم ينصب على النعت .
وقد اختلف في جواز النصب في ذلك في الكلام . وكان بعض نحويي البصرة يقول : إذا لم يضف «كلّ » لم يجز الاتباع . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : ذلك جائز في الحذف وغير الحذف ، لأن أسماءها إذا حُذفت اكتفي بها منها . وقد بيّنا الصواب من القول في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
{ قال الذين استكبروا إنا كل فيها } نحن وأنتم فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا ، وقرئ " كلا " على التأكيد لأنه بمعنى كلنا وتنوينه عوض عن المضاف إليه ، ولا يجوز جعله حالا من المستكن في الظرف فإنه لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم كقولك كل يوم لك ثوب . { إن الله قد حكم بين العباد } بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، و{ لا معقب لحكمه } .
و : { الذين استكبروا } هم أشراف الكفار وكبراؤهم ، ولم يصفهم بالكبر إلا من حيث استكبروا ، لأنهم من أنفسهم كبراء ، ولو كانوا كذلك في أنفسهم لكانت صفته الكبر أو نحوه مما يوجب الصفة لهم . و «تبع » : قيل هو جمع واحد تابع ، كغائب وغيب{[10010]} ، وقيل هو مفرد يوصف به الجمع ، كعدل وزور وغيره .
وقوله : { مغنون عنا } أي يحملون عنا كله{[10011]}المسلم ومشقته ، فأخبرهم المستكبرون أن الأمر قد انجزم بحصول الكل منهم فيها وأن حكم الله تعالى قد استمر بذلك .
ومعنى قولهم : { إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } نحن وأنتم مستوون في الكون في النار فكيف تطمعون أن ندفع عنكم شيئاً من العذاب . وعلى وجه أن يكون قول الضعفاء { إنا كُنَّا لَكمُ تَبعاً } إلى آخره توبيخاً ولوماً لزعمائهم يكون قول الزعماء { إنَّا كُلٌّ فِيهَا } اعترافاً بالغلط ، أي دَعُوا لومنا وتوبيخنا فقد كفانا أنا معكم في النار وتأكيد الكلام ب ( إنّ ) للاهتمام بتحقيقه أو لتنزيل من طالبوهم بالغناء عنهم من عذاب النار مع مشاهدتهم أنهم في العذاب مثلهم ، منزلة من يحسبهم غير واقعين في النار ، وفي هذا التنزيل ضرب من التوبيخ يقولون : ألستم تروننا في النار مثلكم فكيف نغني عنكم . و { كل } مرفوع بالابتداء وخبره { فيها } والجملة من المبتدأ وخبره خبر ( إنَّ ) وتنوين ( كل ) تنوين عوض عن المضاف إليه ، إذ التقدير : إنا كلُّنا في النار .
وجملة { إنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبَادِ } تتنزل منزلة بدل الاشتمال من جملة { إنَّا كُلٌّ فيها } فكلتا الجملتين جواب لهم مؤيس من حصول التخفيف عنهم .
والمعنى : نحن مستوون في العذاب وهو حكم الله فلا مطمع في التقصي من حكمه فقد جوزي كل فريق بما يستحق .
وما في هذه الجملة الثانية من عموم تعلق فعل الحكم بين العباد ما يجعل هذا البدل بمنزلة التذييل ، أي أن الله حكم بين العباد كلهم بجزاء أعمالهم فكان قسطنا من الحكم هذا العذاب . فكلمة { حَكَمَ } هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو المكان المتوسط ، أي وقع حكمه وقضاؤه في مجمعهم الذي حضره من حُكم عليه ومن حكم له ومن لم يتعرض للحكومة لأنه من أهل الكرامة بالجنة ، فليست كلمة ( بين ) هنا بمنزلة ( بين ) في قوله تعالى : { فاحكم بينهم بما أنزل اللَّه } [ المائدة : 48 ] فإنها في ذلك مستعملة مجازاً في التفرقة بين المحق والمبطل .
وفي هذه الآية عبرة لزعماء الأمم وقادتهم أن يحذروا الارتماء بأنفسهم في مهاوي الخسران فيوقعوا المقتدين بهم في تلك المهاوي فإن كان إقدامهم ومغامرتهم بأنفسهم وأممِهم على علم بعواقب ذلك كانوا أحرياء بالمذمة والخزي في الدنيا ومضاعفة العذاب في الآخرة ، إذ ما كان لهم أن يغُرُّوا بأقوام وكلوا أمورهم بقادتهم عن حسن ظن فيهم ، أن يخونوا أمانتهم فيهم كما قال تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [ العنكبوت : 13 ] ، وإن كان قَحْمهم أنفسهم في مضائق الزعامة عن جهل بعواقب قصورهم وتقصيرهم فإنهم ملومون على عدم التوثق من كفاءتهم لتدبير الأمة فيخبِطوا بها خبط عشواء حتى يزلوا بها فيَهْوُوا بها من شواهق بعيدة فيصيروا رميماً ، ويَلْقوا في الآخرة جحيماً .