والفاء فى قوله : { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ . . . } للتفريع على ما تقدم .
والخوض يطلق على السير فى الماء ، والمراد به هنا : الكلام الكثير الذى لا نفع فيه .
واللعب : اشتغال الإِنسان بشئ لا فائدة من ورائه . والمراد به هنا : استهزاؤهم بالحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .
أى : ما دام الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فاترك هؤلاء الكافرين ، ليخوضوا فى باطلهم ، ويلعبوا فى دنياهم ، ولا تلتفت إليهم .
ودعهم فى هزلهم ولهوهم { حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة الذى لا شك فى إتيانه ووقوعه .
وعندما يبلغ السياق هذا المقطع ، بعد تصوير هول العذاب في ذلك اليوم المشهود ؛ وكرامة النعيم للمؤمنين ، وهوان شأن الكافرين . يتجه بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليدعهم لذلك اليوم ولذلك العذاب ، ويرسم مشهدهم فيه ، وهو مشهد مكروب ذليل :
( فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون . يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ) . .
وفي هذا الخطاب من تهوين شأنهم ، ومن التهديد لهم ، ما يثير الخوف والترقب . وفي مشهدهم وهيئتهم وحركتهم في ذلك اليوم ما يثير الفزع والتخوف . كما أن في التعبير من التهكم والسخرية ما يناسب اعتزازهم بأنفسهم واغترارهم بمكانتهم . .
فهؤلاء الخارجون من القبور يسرعون الخطى كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه . . وفي هذا التهكم تناسق مع حالهم في الدنيا . لقد كانوا يسارعون إلى الأنصاب في الأعياد ويتجمعون حولها . فها هم أولاء يسارعون اليوم ، ولكن شتان بين يوم ويوم !
تفريع على ما تضمنه قوله : { فما للذين كفروا قبلك مهطعين } [ المعارج : 36 ] من إرادتهم بفعلهم ذلك وقولهم : إننا ندخل الجنة ، الاستهزاءَ بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وبعدَ إبطاله إجمالاً وتفصيلاً فرع عن ذلك أمر الله رسوله بتركهم للعِلم بأنهم لم يُجْدِ فيهم الهَديُ والاستدلال وأنهم مصرون على العناد والمناواة .
ومعنى الأمر بالترك في قوله : { فذرهم } أنه أمر بترك ما أهمّ النبي صلى الله عليه وسلم من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإِعراض بقوله : { يخوضوا ويلعبوا .
فجملة { يخوضوا } وجملة { ويلعبوا } حالان من الضمير الظاهر في قوله : { فذرهم } . وتلك الحال قيد للأمر في قوله : { فذرهم } . والتقدير : فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم .
وتعدية فعل ( ذَرْ ) إلى ضميرهم من قبيل توجه الفعل إلى الذات . والمراد توجهه إلى بعض أحوالها التي لها اختصاص بذلك الفعل ، مثل قوله تعالى : { حُرّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أي حرم عليكم أكلُها ، وقوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } [ النساء : 23 ] أي أن تجمعُوهما معاً في عصمة نكاححِ والاعتماد في هذا على قرينة السياق كما في الآيتين المذكورتين وقوله تعالى : { فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون } في سورة الطور ( 45 ) ، أو على ذكر ما يدل على حالة خاصة مثل قوله : يخوضوا ويلعبوا } في هذه الآية ، فقد يكون المقدر مختلفاً كما في قوله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } [ المائدة : 90 ] إذ التقدير : فاجتنبوا شرب الخمر والتقامر بالميسر وعبادة الأَنصاب والاستقسام بالأزلام . }
وهذا الاستعمال هو المعنون في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان ، أو إسناد التحريم والتحليل إلى الأعيان ، ولوضوح دلالة ذلك على المراد لم يَعُدّه جمهور علماء الأصول من قبيل المجمل خلافاً للكرخي وبعض الشافعية .
وقد يتوسل من الأمر بالترك إلى الكناية عن التحقير وقلة الاكتراث كقول كَبْشَةَ أختتِ عَمرو بن معديكرب تُلْهَب أخاها عمراً للأخذ بثأر أخيه عبد الله وكان قد قتل :
ودَعْ عنك عَمْراً اِنَّ عَمْراً مُسالم *** وهل بَطْنُ عَمرو غَيْرُ شِبْرٍ لمَطْعَم
وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] .
وبهذا تعلم أن قوله تعالى : { فذرهم } لا علاقة له بحكم القتال ، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين .
والخوض : الكلام الكثير ، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين .
واللعب : الهزل والهُزْء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإِسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجِدّ في الأَمر لاستطارة رشدهم حسداً وغيظاً وحنقاً .
وجزم { يخوضوا ويلعبوا } في جواب الأمر للمبالغة في ارتباط خوضهم ولعبهم بقلة الاكتراث بهم إذ مقتضى جزمه في الجواب أن يقدر : أن تذرهم يَخوضوا ويلعبوا ، أي يستمروا في خوضهم ولعبهم وذلك لا يضيرك ، ومثل هذا الجزم كثير نحو { قُل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليَجْزِيَ قوماً بما كانوا يكسبون } [ الجاثية : 14 ] ونحو { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } [ الإسراء : 53 ] . وبعض المفسرين والنحويين يجعل أمثاله مجزوماً بلام الأمر مقدرة على أن ذلك مقول القول وهو يفيت نكتة المبالغة .
و { حتى } متعلقة ب ( ذرهم ) لما فيه من معنى ، أمهلهم وانتظرهم ، فإن اليوم الذي وعدوه هو يوم النشور حين يجازَوْن على استهزائهم وكفرهم ، فلا يكون غاية ل { يخوضوا ويلعبوا } والغاية هنا كناية عن دوام تركهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فذرهم} خل عنهم يا محمد {يخوضوا} في الباطل {ويلعبوا} يعني ويلهوا في دنياهم {حتى يلاقوا يومهم} في الآخرة {الذي يوعدون} العذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فذر هؤلاء المشركين المهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين، يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في هذه الدنيا.
"حتى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ": حتى يلاقوا عذاب يوم القيامة الذي يوعدونه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أبو بكر: الخائض: المتحير، واللاعب: الخاطئ.
فقوله: {فذرهم} أي فدعم في ما هم من خطاياهم وتحيرهم في دينهم، فكل من اشتغل بما لا يحتاج له فهو حائض لاعب. وأصله أن يكون كل امرئ، لا عاقبة له تحمد، فهو في عمله لا عب لاه كقوله تعالى: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} [محمد: 36] أي من يعمل في الحياة الدنيا للدنيا لا للآخرة، فهو لاعب لاه. وكأن هذه الآية صلة قوله: {فمال الذين كفروا قبلك مهطعين} الآية 36.] أمره بألا يشتغل بأولئك، ويقبل على من يرجو منهم الإيمان، أو أمره بألا يشتغل بمكافأتهم بسوء صنيعهم، فإن الله سينصره عليهم، ويكافئهم عنه.
وقوله تعالى: {حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون} قد لاقوا ذلك اليوم، وهو يوم بدر، وسيلاقون اليوم الثاني، وهو يوم الآخرة بتركهم الإجابة، فيسارعون في ذلك اليوم إلى إجابة الداعي رجاء أن يتخلصوا من العذاب الذي حق عليهم بترك الإجابة، وذلك لا ينفعهم، وإن وجدت منهم التوبة والرجوع إلى تلك الإجابة، لأن ذلك اليوم ليس بيوم تنفع فيه الندامة والتوبة. وإنما هو يوم تجزى فيه كل نفس بما كسبت... فيكون هذا تحريضا [على الإسراع] إلى إجابة الداعي والإيمان بما يدعوا إليه قبل أن يؤمنوا إيمانا، لا ينفعهم. والله أعلم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ما توعد الله من أحوال الآخرة لا بد من وقوعه كان كأنه قادم على الإنسان والإنسان ساع بجهده إليه، فلذلك عبر بالمفاعلة فقال: {حتى يلاقوا} ولما كان ما يقع للكفار منه أعظم، كان ذلك اليوم كأنه خاص بهم فقال: {يومهم الذي} ولما كان الوعيد -وهو ما كان من الخبر تخويفاً للمتوعد- صادعاً للقلوب إذا كان من القادر من غير حاجة إلى ذكر المتوعد، بني المفعول قوله: {يوعدون} وهو يوم كشف الغطاء الذي أول تجليته عند الغرغرة ونهايته النفخة الثانية إلى دخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره، والآية منسوخة بآية السيف.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعندما يبلغ السياق هذا المقطع، بعد تصوير هول العذاب في ذلك اليوم المشهود؛ وكرامة النعيم للمؤمنين، وهوان شأن الكافرين. يتجه بالخطاب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليدعهم لذلك اليوم ولذلك العذاب، ويرسم مشهدهم فيه، وهو مشهد مكروب ذليل: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون. يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون).. وفي هذا الخطاب من تهوين شأنهم، ومن التهديد لهم، ما يثير الخوف والترقب. وفي مشهدهم وهيئتهم وحركتهم في ذلك اليوم ما يثير الفزع والتخوف. كما أن في التعبير من التهكم والسخرية ما يناسب اعتزازهم بأنفسهم واغترارهم بمكانتهم.. فهؤلاء الخارجون من القبور يسرعون الخطى كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه.. وفي هذا التهكم تناسق مع حالهم في الدنيا. لقد كانوا يسارعون إلى الأنصاب في الأعياد ويتجمعون حولها. فها هم أولاء يسارعون اليوم، ولكن شتان بين يوم ويوم!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى الأمر بالترك في قوله: {فذرهم} أنه أمر بترك ما أهمّ النبي صلى الله عليه وسلم من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإِعراض بقوله: {يخوضوا ويلعبوا. فجملة {يخوضوا} وجملة {ويلعبوا} حالان من الضمير الظاهر في قوله: {فذرهم}. وتلك الحال قيد للأمر في قوله: {فذرهم}. والتقدير: فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم...
وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8]. وبهذا تعلم أن قوله تعالى: {فذرهم} لا علاقة له بحكم القتال، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين.
والخوض: الكلام الكثير، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
واللعب: الهزل والهُزْء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإِسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجِدّ في الأَمر لاستطارة رشدهم حسداً وغيظاً وحنقاً. وجزم {يخوضوا ويلعبوا} في جواب الأمر للمبالغة في ارتباط خوضهم ولعبهم بقلة الاكتراث بهم إذ مقتضى جزمه في الجواب أن يقدر: أن تذرهم يَخوضوا ويلعبوا، أي يستمروا في خوضهم ولعبهم وذلك لا يضيرك. و {حتى} متعلقة ب (ذرهم) لما فيه من معنى، أمهلهم وانتظرهم، فإن اليوم الذي وعدوه هو يوم النشور حين يجازَوْن على استهزائهم وكفرهم.