ثم حكى الله - تعالى - عنه فى الجواب ما يدل على سلامة تفكيره ، فقال : { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ } أى : قال ذو القرنين فى الرد على تخيير ربه له فى شأن هؤلاء القوم ، يا رب : أما من ظلم نفسه بالإِصرار على الكفر والفسوق والعصيان { فسوف نعذبه } فى هذه الدنيا بالقتل وما يشبهه . ثم يرد هذا الظالم نفسه إلى ربه - سبحانه - فيعذبه فى الآخرة عذابا { نكرا } أى : عذابا فظيعا عظيما منكرا وهو عذاب جهنم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمّ يُرَدّ إِلَىَ رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نّكْراً } .
يقول جلّ ثناؤه قال أمّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ يقول : أما من كفر فسوف نقتله ، كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : أمّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ قال : هو القتل .
وقوله : ثُمّ يُرَدّ إلى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَابا نُكْرا يقول : ثم يرجع إلى الله تعالى بعد قتله ، فيعذّبه عذابا عظيما ، وهو النكر ، وذلك عذاب جهنم .
{ ظلم } في هذه الآية بمعنى كفر ، ثم توعد الكافرين بتعذيبه إياهم قبل عذاب الله ، وعقب لهم بذكر عذاب الله ، لأن تعذيب ذي القرنين هو اللاحق عندهم ، المحسوس لهم ، الأقرب نكاية فلما جاء إلى وعد المؤمنين ، قدم تنعيم الله تعالى الذي هو اللاحق عن المؤمنين ، والآخر بإزائه حقير ، ثم عبر أخيراً بذكر إحسانه في قول اليسر ، وجعله قولاً ، إذ الأفعال كلها خلق الله تعالى ، فكأنه سلمها ، ولم يراع تكسبه ، وقرأت فرقة «نُكراً » بضم الكاف ، وفرقة «نكْراً » بسكون الكاف ، ومعناه المنكر الذي تنكره الأوهام لعظمه وتستهوله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} ذو القرنين: {أما من ظلم فسوف نعذبه}، يعني: نقتله،
{ثم يرد إلى ربه فيعذبه} في الآخرة بالنار، {عذابا نكرا}، يعني: فظيعا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه:"قال أمّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ" يقول: أما من كفر فسوف نقتله...
وقوله: "ثُمّ يُرَدّ إلى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَابا نُكْرا "يقول: ثم يرجع إلى الله تعالى بعد قتله، فيعذّبه عذابا عظيما، وهو النكر، وذلك عذاب جهنم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانوا كَفَرةً فخَيَّرَه اللهُ بين أن يُعذِّبَهم بالقتل وأن يَدعوَهم إلى الإسلام، فاختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم فقال: أمّا مَن دَعَوْتُه فأبَى إلا البقاءَ على الظلم العظيم الذي هو الشِّرك: فذلك هو المُعذَّب في الدّارَيْن...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
تَوَعَّدَ الكافرين بتعذيبه إيّاهم قبل عذاب الله، وعَقَّبَ لهم بذِكر عذاب الله، لأن تعذيب ذي القرنين هو اللّاحِقُ عندهم، المحسوسُ لهم، الأَقْرَبُ نِكايَةً فلَمّا جاء إلى وعْد المؤمنين، قَدَّمَ تنْعيمَ اللهِ تعالى الذي هو اللاحق عند المؤمنين، والآخرُ بإزائه حَقيرٌ، ثم عَبَّر أخيراً بذِكر إحسانِه في قول اليُسْر، وجَعَله قولاً... فكأنه سلمها، ولم يُراعِ تَكَسُّبَه. وقرأت فِرقةٌ «نُكُراً» بضَمّ الكاف، وفرقةٌ «نُكْراً» بسكون الكاف، ومعناه المُنْكَرُ الذي تُنْكِرُه الأوهامُ لِعِظَمِه وتَسْتَهْوِلُه...
ثم قال ذو القرنين: {أما من ظلم نفسه} أي ظلم نفسه بالإقامة على الكفر. والدليل على أن هذا هو المراد أنه ذكر في مقابلته:"وأما من آمن وعمل صالحا"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال أما من ظلم} باستمراره على الكفر فإنا نرفق به حتى نيأس منه ثم نقتله، وإلى ذلك أشار بقوله: {فسوف نعذبه} بوعد لا خلف فيه بعد طول الدعاء والترفق {ثم يرد} بعد الحياة بالموت، أو بعد البرزخ بالبعث، رداً هو في غاية السهولة {إلى ربه} الذي تفرد بتربيته {فيعذبه عذاباً نكراً} شديداً جداً لم يعهد مثله لكفره لنعمته، وبذل خيره في عبادة غيره، وفي ذلك إشارة بالتهديد الشديد لليهود الغارين لقريش، وإرشاد لقريش إلى أن يسألوهم عن قوله هذا، ليكون قائداً لهم إلى الإقرار بالبعث...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي بالبَغْي والفسادِ في الأرض... والضَّلالِ والإِضْلالِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والمهم أن ذا القرنين أعلن دستوره في معاملة البلاد المفتوحة، التي دان لها أهلها وسلطه الله عليها.
"قال: أما من ظلم فسوف نعذبه، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا. وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى، وسنقول له من أمرنا يسرا".
أعلن أن للمعتدين الظالمين عذابه الدنيوي وعقابه، وأنهم بعد ذلك يردون إلى ربهم فيعذبهم عذابا فظيعا "نكرا": لا نظير له فيما يعرفه البشر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا قانونُ العَدْل وهو أن يُجازيَ المُسيءَ على إساءته، والمُحْسِنَ بإحسانه، هذا ما استقَرَّ عليه أمرُه واعتزَمَه،.. والظُّلْم يقع على كل المُنْكَرات، لأن الظلم يكون بنقْص الحقوق، والتّفريطِ فيها، ويكون بمُجاوَزة حَدِّ المعقول... ويقع على كل المَنْهِيّات من المعاصي كالقتل وشُرب الخمر والزنى، ورمْي المُحْصَنات...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
إشارة إلى السياسة العادلة التي سار عليها ذو القرنين في حكمه، مما مكن له في الأرض، وجعله موضع الرضا عند الله، والثناء في كتاب الله. وهذه السياسة كما رسمتها الآية الكريمة تقوم على تشجيع العمل الصالح، ومعاملة أهله بمزيد من الرعاية والعناية، وعلى مكافحة العمل الفاسد، ومواجهة المفسدين بالعقاب الرادع في الدنيا، مع الوعيد بالعذاب الأليم في الآخرة {عذابا نكرا} أي عذابا غير معروف ولا يخطر على قلب بشر...
فلن نُعذِّبَه على قَدْر ما فَعل، بل نُعذِّبُه عُقوبةً دنيويّةً فقط؛ لأن العقوباتِ الدنيويّةَ شُرِّعَتْ لحِفْظ توازن المجتمع، ورَدْعِ مَن لا يَرْتَدِعُ بالموعِظة، وإلا فما فائدةُ الموعظةِ في غير المؤمِن؟ لذلك نرى الأمم التي لا تؤمن بإله، ولا بالقيامة والآخِرةِ تُشَرِّع هذه العقوبات الدنيوية لتستقيم أوضاعُها...
{عذاباً نُكُراً}... لأننا حينما نُعَذَّبُ في الدنيا نُعَذَّبُ بفِطْرتنا وطاقَتِنا، أما عذابُ الله في الآخِرة فهو شيءٌ لا نعرِفه، وفوقَ مَدارِكِنا وإمكاناتِنا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} في الدنيا وفق خط الشريعة العادل التي تريد أن تؤكد النظام الكامل في المجتمع في علاقاته بين أفراده، فتدفع إلى عقاب الظالمين الذين يظلمون أنفسهم بالانحراف عن الخط المستقيم، ويظلمون غيرهم بالاعتداء على حقوقهم وحرياتهم، لأن ذلك هو العنصر الرادع الذي يمنعهم في المستقبل من الامتداد في خط الانحراف والعدوان، انطلاقاً من الحالة الإنسانية الخاضعة لمبدأ الثواب والعقاب. أما في الآخرة، فإن العذاب ينتظر الظالم لتمرده على الله في ما عصاه في أوامره ونواهيه. {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} أي منكراً عظيماً لا يعرف طبيعته لأنه غير مألوف لديه، في ما كان يألفه من ألوان العذاب في الدنيا.