قوله تعالى : { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا } أي : أصابك { بسوء } يعني : لست تتعاطى ما نتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا ، اعتراك ، أي : أصابك بسوء بخبل وجنون ، وذلك أنك سببت آلهتنا فانتقموا منك بالتخبيل لا نحمل أمرك إلا على هذا ، { قال } ، لهم هود ، { إني أشهد الله } ، على نفسي ، { واشهدوا } ، يا قوم { أني بريء مما تشركون } .
ثم أضافوا إلى إصرارهم هذا استخفافا به وبما يدعو إليه فقالوا : " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . "
ومعنى اعتراك : أصابك ومسك . يقال عراه الأمر واعتراه أى أصابه ، وأصله من قولهم : عراه يعروه ، أى : غشية وأصابه . ومنه قول الشاعر :
وإنى لتعرونى لذكراك هزة . . . . . أى : تصيبنى .
أى : ما نحن تباركى آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمتبعين ، بل عليك أن تيأس يأسا تاما من استجابتنا لك ، وحالتك التى نراها بأعيننا تجعلنا نقول لك : إن سبك لآلهتنا جعل بعضها - لا كلها - يتسلط عليك ، ويوجه قدرته نحوك ، فيصيبك بالجنون والهذيان والأمراض .
ولم يقولوا : " اعتراك آلهتنا بسوء " بل قالوا : { بَعْضُ آلِهَتِنَا } تهديدا له وإشارة إلى أنه لو تصدت له جميع الآلهة لأهلكته إهلاكا .
وهذكا نراهم قد ردوا على نبيهم ومرشدهم بأربعة ردود ، تدرجوا فيها من السئ إلى الأسوأ ، ومن القبيح إلى الأقبح . . مما يدل على توغلهم فى الطغيان ، وبلوغهم النهاية فى العناد والكفر والجحود .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : " أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . "
أى : مسك بجنون لسبك إياها ، وصدك عنها ، وعداوتك لها ، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء ، فمن ثم صرت تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين .
ثم قال . وقد دلت ردودهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد ، لا يبالون بالبهت ، ولا يلتفتون إلى النصح ، ولا تلين شكيمتهم للرشد .
وهذا الأخير دال على جهل مفرط ، وبله متناه ، حيث اعقتدوا فى حجارة أنها تنتصر وتنقم . . .
والآن بعد أن استمع هود - عليه السلام - إلى ردودهم القبيحة ماذا كان موقفه منهم ؟
لقد كان موقفه منهم : موقف المتبرئ من شركهم ، والمتحدى لطغيانهم والمعتمد على الله - تعالى - وحده فى الانتصار عليهم ، ولقد حكى القرآن رده علهيم فقال :
{ قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }
أى : قال هود - عليه السلام - للطغاة من قومه بعزة وثقة { قَالَ إني أُشْهِدُ الله } الذى لا رب سواه على براءتى من عبادتكم لغيره .
{ واشهدوا } أنتم أيضا على { أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .
أى : على براءتى من كل عبادة تعبدونها لغير الله - تعالى - لأنها عبادة باطلة . يحتقرها العقلاء ، ويتنزه عنها كل إنسان يحترم نفسه .
فأنت تراه فى هذه الآية الكريمة يعلن احتقاره لآلهتهم ، وبراءته من شركهم ، واستخفافه بأصنامهم التى زعموا أن بعضها قد أصابوا بسوء ، ويوثق هذه البراءة بإشهاد الله - تعالى - وإشهادهم .
وذلك كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به : أشهد الله وأشهدك على أنى فعلت بك كذا وكذا ، وقلت فى حقك كذا وكذا . . فافعل أنت ما بدا لك ! ! .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن نّقُولُ إِلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنّيَ أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُوَاْ أَنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمّ لاَ تُنظِرُونِ } .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره ، عن قول قوم هود أنهم قالوا له ، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه ، وخلع الأوثان والبراءة منها : لا نترك عبادة آلهتنا ، وما نقول إلا أن الذي حملك على ذمها والنهي عن عبادتها أنه أصابك منها خبل من جنون فقال هود لهم : إني أشهد الله على نفسي وأشهدكم أيضا أيها القوم أني بريء مما تشركون في عبادة الله من آلهتكم وأوثانكم من دونه ، فَكِيدُونِي جمِيعا يقول : فاحتالوا أنتم جميعا وآلهتكم في ضرّي ومكروهي ، ثُمّ لا تُنْظِرُونِ يقول : ثم لا تؤخرون ذلك ، فانظروا هل تنالونني أنتم وهم بما زعمتم أن آلهتكم نالتني به من السوء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : أصابتك الأوثان بجنون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : أصابك الأوثان بجنون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن عيسى ، عن مجاهد : إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : سبَبْت آلِتها وعبتها فأجنّتك .
قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أصابك بعض آلهتنا بسوء يعنون الأوثان .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنْ نَقُولُ إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : أصابك الأوثان بجنون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : إنْ نَقُولُ إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : تصيبك آلهتنا بالجنون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : ما يحملك على ذمّ آلهتنا ، إلا أنه أصابك منها سوء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنْ نَقُولُ إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : إنما تصنع هذا بآلهتنا أنها أصابتك بسوء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عبد الله بن كثير : أصابتك آلهتنا بشرّ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنْ نَقُولُ إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يقولون : نخشى أن يصيبك من آلهتنا سوء ، ولا نحب أن تعتريك ، يقولون : يصيبك منها سوء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : إنْ نَقُولُ إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يقولون : اختلط عقلك فأصابك هذا مما صنعت بك آلهتنا .
وقوله : اعْتَرَاكَ افتَعَل ، من عراني الشيء يعروني : إذا أصابك ، كما قال الشاعر :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.