التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ} (97)

{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ { 97 } مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ { 98 } } .

في الآية الأولى من هاتين الآيتين أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد على من يعلن عداءه لجبريل وتوكيد له بأن جبريل هو الذي ينزل القرآن على قلبه بإذن الله مصدقا لما سبقه من كتب الله وليكون بشرى وهدى للمؤمنين . أما الآية الثانية ففيها تقرير إنذاري بأن الله عدو للكافرين الذين يكون منهم من يعادي الله ورسله وملائكته وبخاصة جبريل وميكال منهم .

تعليق على الآية

{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ . . . }

والآية التالية لها

وقد روى المفسرون {[208]} في سياق طويل روايات عديدة مختلفة في الصيغ والوقائع متفقة في الجوهر في صدد الآيتين ، منها أن فريقا من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة عديدة ووعدوه بأن يتابعوه إذا أجاب عليها إجابات صحيحة فأجابهم إجابات اعترفوا بصحتها ، ثم سألوه عمن ينزل عليه بالوحي فقال : جبريل ، فقالوا : إنه عدونا وإنه ينزل بالخسف والشدة وإنه حال دون قتل بختنصر فكان سبباً في حياته وتخريبه هيكلنا . ولو كان غيره الذي يأتيك لتابعناك . ومنها أن محاورة جرب بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفريق من اليهود قالوا له فيما قالوا : إن جبريل عدونا وينزل بالخسف والحرب ، وإن ميكال سلمنا وينزل بالخصب . وإن جبريل وميكال عدوان لبعضهما ، وإن أولهما يقف إلى يمين الله وثانيهما إلى يساره فسفههما قائلاً : كيف يكونان عدوين وهما المقربان من الله ، ثم نقل خبر المحاورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآيتان .

وهناك حديث عن أنس بن مالك رواه البخاري جاء فيه {[209]} : «إن عبد الله بن سلام سمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال له : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبيّ ، فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزِع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ فقال : أخبرني بهن جبريل آنفاً ، قال : جبريل ؟ قال : نعم . قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } ثم قال له : أما أول أشراط الساعة فنارٌ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت . وإذا سبق ماء الرجل ماءَ المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت . قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله . ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بُهْتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتُوني . فجاء اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيّ رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا . قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك . فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فقالوا : شرّنا وابن شرّنا وانتقصوه ، قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله » . ويلحظ أن الآية الثانية قرنت جبريل وميكال معاً في معرض إعلان عداء الله للذين يعادونهما في حين أن الروايات تذكر أن اليهود قالوا : إن جبريل عدونا وميكال سلمنا وإن الحديث لم يذكر ميكال .

ومهما يكن من أمر فإن روح الآيتين وورودهما في سياق جملة طويلة على اليهود واختصاص جبريل وميكال بالذكر يلهم أنهما نزلتا بسبب محاورة جرت بشأنهما مع اليهود وإن هؤلاء أعلنوا عداءهم لهما أو لأحدهما فردت الآيتان عليهم كأنما تقولان : إذا كانوا أعداء لجبريل فليموتوا بغيظهم فهو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه هو وميكال صاحبا حظوة عند الله وأن معاداتهما هي كمعاداة الله وكفر به ومجلبة لعدائه .

وواضح من هذا أن الآيتين جزء من السلسلة والمتبادر أن الحادث وقع في أثناء نزول السلسلة وبعد نزول حلقاتها الأولى فتضمنت الآيات الرد عليهم والله أعلم .

هذا ، وأسلوب الآية الأولى أسلوب توكيد وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كما هو المتبادر منه . وهذه أول مرة يرد فيها ذكر جبريل بصراحة ، وأنه هو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم . أما قبل ذلك فقد ورد بتعبير الروح الأمين في سورة الشعراء والروح القدس في سورة النحل . وجبريل لفظ معدول أو معرب عن جبرائيل المؤلفة من مقطعين ( جبرا ) و( ايل ) والمقطع الثاني يعني الله في اللغات العربية القديمة . وفي تفسير الطبري ما يفيد أن هذا كان مفهوماً كذلك عند أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم . وهكذا يكون معنى الاسم جبر الله أو قوة الله وقد ورد ذكره في الأناجيل بوصفه ملك الله الذي بشر زكريا بابنه يحيى {[210]} . وأسلوب ذكره هنا يشعر بعظم مقامه عند الله ، وهذا ما يشعر به أسلوب ذكره للمرة الثانية في آية سورة التحريم التي نزلت في ظروف أزمة وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم ونسائه وهي : { إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ { 4 } } . ولقد ورد ذكر نزول الروح والملائكة ليلة القدر في سورة القدر . وأوردنا في سياق ذلك ما رواه المفسرون عن أهل التأويل من تأويل الروح بجبريل ، واستنتجنا من ذلك أنه عظيم الملائكة . وقد ورد في نفس المعنى في آيات المعارج [ 4 ] والنبأ [ 38 ] . وهناك أحاديث عديدة تذكر أن جبريل هو الذي كان ينزل عادة بالقرآن وبأوامر الله على النبي . وقد أوردنا بعضها في مناسبات سابقة .

وميكال أيضا يذكر هنا للمرة الأولى والوحيدة ، وهو أيضا معرب أو معدول عن ميكائيل . وقد ورد اسمه في حديث نبوي رواه أبو سعيد الخدري جاء فيه : «ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض فأما وزيرَايَ من أهل السماء فجبريل وميكائيل وأما وزيرايَ من أهل الأرض فأبو بكر وعمر » {[211]} .

والمرجح وهو ما تعضده الروايات أن اسمي جبريل وميكال كانا يذكران في الأوساط الكتابية اليهودية والنصرانية ، وأن العرب قد عرفوهما بوصفهما من كبار ملائكة الله المقربين عن طريق هذه الأوساط قبل نزول القرآن ، وقد عربوا اسميهما في صيغة عربية قبل ذلك أيضاً على ما هو المتبادر .

وتعبير { نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } قد ورد في آيات سورة الشعراء هذه : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ { 193 } عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ { 194 } } وعلقنا على مدى هذا التعبير في سياق تفسير هذه الأيات بما يغني عن التكرار هنا بمناسبة ورود مثل هذا التعبير في الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما ، هذا بالإضافة إلى شرحنا لمدى الوحي الرباني الذي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في سياق سورة القيامة .

ولقد أورد المفسران ابن كثير والقاسمي في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية ، ومما أورده الأول حديث عزاه إلى صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب » . ومما أورده الثاني حديث عزاه كذلك إلى البخاري عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقول من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله بتردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءتَه » {[212]} .

والمتبادر أن المفسرين أوردا ما أورداه في مناسبة ما جاء في الآية الثانية من إيذان الله بأن من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوّ للكافرين الذين يكون منهم من يعاديه ويعادي رسله وملائكته . وفيها إيذان بمثل ما في الآية . أما بقية الحديث الثاني فمن الحكمة الملموحة فيها تطمين المؤمنين المخلصين وتبشيرهم وحثّ على الإخلاص لله تعالى والله أعلم .


[208]:انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير وغيرهما، والطبري وابن كثير استوعبا جميع الروايات. والثاني ينقلها عن الأول تقريباً
[209]:التاج 4/36-37
[210]:انظر الإصحاح الأول من إنجيل لوقا
[211]:التاج 3/281
[212]:هذا الحديث ورد في التاج برواية البخاري والإمام أحمد، 5/ 188-189 ونرجح أن الحديث الأول هو جزء ملتبس من الحديث الثاني والله أعلم