التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ} (11)

في الآيات أوامر للنبي عليه السلام ، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر .

وهي كما يتبادر لنا غير منفصلة عن السياق السابق ، وقد احتوت تقريرات حاسمة كأنها تقريرات ختامية للموقف الذي ظل فيه الكفار مصرين معاندين وتعقيبا عليه . وقد هتف فيها بالمؤمنين بما هتف تثبيتا لقلوبهم وتطمينا لروعهم وحثا لهم على الصبر والتمسك بأهداب التقوى والإيمان والعمل الصالح . وتبشيرا لهم بالعاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة . واحتوت الآية الأخيرة تنديدا وإنذارا وتعنيفا لاذعا للمشركين متناسبا مع الموقف وباثا في الوقت نفسه الوثوق والاستعلاء في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه . فليعبدوا ما شاءوا من دون الله فهم الخاسرون يوم القيامة ، ومن يكن خاسرا يوم القيامة فهو الخاسر لكل شيء .

تعليق على تكرر أمر الله في السورة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعبادة الله وحده مخلصا له الدين

والمتبادر أن أمر الله عز وجل للنبي عليه السلام بإعلان ما أمر بإعلانه هو لأجل قطع أي أمل لدى في تساهله معهم في صدد آلهتهم وشركائهم وتراجعه عما كان المشركون يبذلون جهدهم في سبيل تحقيقه على ما حكته آيات في سور أخرى سبق تفسيرها مثل سورتي القلم والإسراء .

ويلحظ أن مثل هذا الأمر ورد في مطلع السورة ، وقد تكرر هذا لثالث مرة في موضع آخر في أواخر السورة أيضا ؛ حيث يمكن أن يدل على أن المشركين قد جددوا جهودهم واقتراحاتهم في ظروف نزول السورة .

تعليق على إلهام جملة : { وأرض الله واسعة } بالهجرة إلى الحبشة :

والآية الأولى تلهم بالإضافة إلى ما قلناه أنها تحتوي إذنا ربانيا أو حثا ربانيا للمضطهدين من المؤمنين على الهجرة من مكة ، وتبشيرا لمن يهاجر بأنه سوف يجد في أرض الله سعة ، وبأن الله سييسر له ما تقر به عينه ويؤتيه أجر صبره وافيا بغير تقتير ولا حساب على ما يناله من أذى وجهد وفراق .

وهذا ما يستفاد من تأويلات الصدر الأول التي رواها المفسرون حيث رووا عن ابن عباس ومقاتل وغيرهما أن فيها أمر للمسلمين بالهجرة من مكة . ولقد قال البغوي دون عزو إلى أحد : إنها نزلت في مهاجري الحبشة ، وقال الخازن دون عزو إلى أحد : قيل إنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين هاجروا إلى الحبشة ، ونرجح أن هذا القول من وحي الهجرة التي كانت في أواخر الهجرة الخامسة على ما يستفاد من روايات السيرة وبعبارة أخرى بعد هذه الآيات التي يخمن نزولها في مثل هذا الوقت ، إذا ما لوحظ المقدار الذي نزل من القرآن قبلها .

والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء ، وأنه لا يقدر على منعهم . قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم ، فخرجت أولى قافلة منهم مؤلفة من عثمان بن عفان وزوجته سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجته وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وزوجته ليلى وأبو سبرة بن أبي رهم وسهيل بن بيضاء رضي الله عنهم . والأسماء تدل على أن المهاجرين كلهم أو جلهم من بيوتات قريش حيث يزيل هذا ما يقع في الوهم أنهم من الفئات الضعيفة أو الفقيرة . وكل ما كان من أمر هو أن آباءهم وذويهم نقموا عليهم إسلامهم واضطهدوهم ، وحاولوا أن يفتنوهم عن دينهم فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإذن الله بالهجرة . والروايات تذكر أنه بلغ المهاجرين خبر إسلام قريش فعادوا إلى مكة بعد أشهر فظهر لهم خطأ ما بلغهم فعاد أكثرهم ثانية إلى الحبشة وهاجر معهم عدد كبير آخر حيث بلغ عدد قافلتهم هذه المرة 83 رجلا و17 امرأة جلهم من قريش .

ولقد حقق الله وعده للمهاجرين ، وظهر صدق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ؛ حيث وجدوا الحماية والعناية من ملك الحبشة فأقاموا فيها آمنين مطمئنين إلى السنة السادسة بعد الهجرة أي إلى أن انعقد صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش . فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أتى بهم إلى المدينة معززين مكرمين وهكذا ضرب الرعيل الأول من المسلمين أروع الأمثلة في التمسك بدين الله وتحمل مشاق الهجرة ومخاطرها ومفارقة الوطن والحرمان في سبيله .

التلقين المنطوي في الآية { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم . . . } إلخ :

وبالإضافة إلى ما احتوته هذه الآية من حث المسلمين الأولين على الهجرة إلى أرض الله الواسعة فإنها بأسلوبها العام تتضمن هتافا دائما بما احتوته إلى عباد الله المخلصين . وتتضمن تلقينا مستمر المدى بوجوب عدم الخنوع للظلم والكفر وبغي أهلهما والهجرة من أرضهما إلى أرض الله الواسعة التي يجد المؤمن فيها الأمن والحرية والطمأنينة ، ووعدا ربانيا دائما للمتقين المحسنين الصابرين بالعاقبة الحسنة في الدنيا قبل الآخرة . ولقد تكرر هذا الهتاف والوعد في آيات أخرى منها آية سورة النحل هذه : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ( 41 ) } وآية سورة النساء هذه : { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ( 100 ) } .

ولقد اجتمع في الآية ثلاثة أخلاق من أكثر ما حث عليها القرآن ووعد المتخلقين بها بأحسن العواقب في الدنيا والآخرة وهي التقوى والإحسان والصبر ، وبذلك تكون من الآيات المفردة في ذلك .