التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{أَوَءَابَآؤُنَا ٱلۡأَوَّلُونَ} (48)

{ وأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ 41 فِي سَمُومٍ وحَمِيمٍ 42 وظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ 43 لَّا بَارِدٍ ولَا كَرِيمٍ 44 إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ 45 وكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ 46 وكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ 47 أو آباؤنا الأولون 48 } [ 41 48 ]

والآيات كذلك استمرار للكلام . وقد احتوت تقريعا للكافرين الجاحدين المشركين الذين هم أصحاب الشمال ، ووصفا لمنازلهم وعذابهم بأسلوب هائل ورائع : فهم معرضون للريح الشديدة الحرارة واللفح ، فإذا عمدوا إلى إطفاء حرهم بالماء فهو حميم شديد الحرارة أيضا ، وإذا عمدوا إلى رواق يتراءى لهم كأنه ظل فهو ظل من يحموم دخان شديد السواد لا يمنح برودة ولا يمنع أذى الحر . وليس من شك في أن هذا الوصف مما يثير الفزع والرهبة في النفوس ، وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر بالإضافة إلى القول بوجوب الإيمان بما احتوته الآيات من المشاهد الأخروية .

ولقد احتوت الآيات بالإضافة إلى ذلك تعليلا لمصير الكفار الرهيب . فقد كانوا مستغرقين في حياة الترف مصرين على الكفر والجحود والإثم . وتكذيب ما كانوا يوعدون به من بعثهم وآبائهم بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما .

والمتبادر من الآيات وخاصة الآية [ 45 ] أن الكلام منصرف في الدرجة الأولى إلى الزعماء والأغنياء . فهم الذين يكونون عادة مستغرقين في حياة الترف . وهم الذين كانوا يقودون حملة التكذيب والمناوأة لدعوة الله سبحانه .

تعليق على التنديد بالترف والمترفين

وقد يبدو من الكلام أن الترف من جملة الآثام التي يعاقب عليها أصحابها في الآخرة ، وإنه لكذلك إذا كان فيه سرف وسفه واستغراق يحول بين صاحبه وبين الإيمان والعمل الصالح والقيام بواجباته نحو الله تعالى والناس . وقد يكون في الجملة والحال هذه معنى من معاني الإنذار والتحذير للمسلمين بأن يلتزموا الاعتدال في حياتهم وفق الحدود التي رسمها الله لهم في آيات سورة الأعراف هذه { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشْرَبُواْ ولاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 32 قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإِثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 33 } وآية سورة الإسراء هذه { ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ولاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا 29 } .

تعليق على تنوع أوصاف النعيم والعذاب في الآخرة

هذا ، ولا بد من أن يكون تالي القرآن قد لاحظ تنوعا في وصف ثواب الآخرة وعذابها وأحداثها وأهوالها . غير أنا لا نرى في هذا ما يدعو إلى التوهم ، فمع الحقيقة الإيمانية المغيبة في البعث والحساب والثواب والعذاب ووجوب الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية فإن تكرر المواقف وتجدد المناسبات مما يقتضي أو يتحمل التنويع في أساليب الترهيب والترغيب والتبشير والإنذار حفزا للهمم ودعوة للارعواء ، ويلفت النظر إلى أن أوصاف النعيم والعذاب هي مستمدة من مألوفات الناس ومفهوماتهم في الدنيا للتقريب والتمثيل ؛ لأن الناس لا يتأثرون إلاّ بما في أذهانهم من صور وما يقع تحت مشاهدتهم وحسهم وتجاربهم . وبما أن المألوفات والمفهومات في هذا الباب متنوعة فالمتبادر أن الحكمة اقتضت التنويع لتحقيق الهدف الدنيوي من الإنذار والتبشير والترهيب والترغيب .

قرينة على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه

ويلفت النظر إلى مظهر يمكن أن يكون قرينة على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه ، وهو أن سورة طه انتهت بإيعاد الكفار وإنذارهم وإنظارهم إلى اليوم الذي يعلمون فيه علم اليقين من هو المهتدي ومن هو الضال . فجاءت هذه السورة تصف ذلك اليوم وتصف مصائر الناس فيه حسب مواقفهم وأعمالهم في الدنيا .