تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب} (8)

وقوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } أي : إذا فَرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها ، فانصب في العبادة ، وقم إليها نشيطا فارغ البال ، وأخلص لربك النية والرغبة . ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته : " لا صلاة بحضرة طعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان " {[30227]} وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء ، فابدءوا بالعَشَاء " {[30228]} .

قال مجاهد في هذه الآية : إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة ، فانصب لربك ، وفي رواية عنه : إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك ، وعن ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل . وعن ابن عياض نحوه . وفي رواية عن ابن مسعود : { فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } يعني : في الدعاء .

وقال زيد بن أسلم ، والضحاك : { فَإِذَا فَرَغْتَ } أي : من الجهاد { فَانْصَبْ } أي : في العبادة . { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } قال الثوري : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله ، عز وجل .

آخر تفسير سورة " ألم نشرح " ولله الحمد .


[30227]:- (1) رواه مسلم في صحيحه برقم (560) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
[30228]:- (2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5465) من حديث عائشة، رضي الله عنها.

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب} (8)

عُطِفَ على تفريع الأمر بالشكر على النعم أمر بطلب استمرار نعم الله تعالى عليه كما قال تعالى : { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 7 ] .

والرغبة : طلب حصول ما هو محبوب وأصله أن يعدى إلى المطلوب منه بنفسه ويعدى إلى الشيء المطلوب ب ( في ) . ويقال : رغب عن كذا بمعنى صرَف رغبتهُ عنه بأن رغب في غيره وجُعل منه قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] بتقدير حرف الجر المحذوف قبل حرف ( أنْ ) هو حرف ( عَن ) . وذلك تأويل عائشة أم المؤمنين كما تقدم في سورة النساء .

وأما تعدية فعل { فارغب } هنا بحرف { إلى } فلتضمينه معنى الإِقبال والتوجه تشبيهاً بسير السائر إلى من عنده حاجته كما قال تعالى عن إبراهيم : { وقال إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] .

وتقديم إلى { ربك } على { فارغب } لإِفادة الاختصاص ، أي إليه لا إلى غيره تكون رغبتك فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق فلا يليق بصاحبها أن يرغب غير الله تعالى .

وحُذف مفعول « ارغب » ليعم كل ما يرغبه النبي صلى الله عليه وسلم وهل يرغب النبي إلا في الكمال النفساني وانتشار الدين ونصر المسلمين .

واعلم أن الفاء في قوله : { فانصب } [ الشرح : 7 ] وقوله : { فارغب } رابطة للفعل لأن تقديم المعمول يتضمن معنى الاشتراط والتقييد فإن تقديم المعمول لما أفاد الاختصاص نشأ منه معنى الاشتراط ، وهو كثير في الكلام قال تعالى : { بل الله فاعبد } [ الزمر : 66 ] وقال : { وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر } [ المدثر : 3 5 ] ، وفي تقديم المجرور قال تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمَن سأل منه أن يَخرج للجهاد : " ألكَ أبَوان ؟ قال : نعم : فقال ففيهما فجاهد " . بل قد يعامل معاملة الشرط في الإِعراب كما روي قول النبي صلى الله عليه وسلم " كما تَكونُوا يُوَلَّ عليكم " بجزم الفعلين ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { فبذلك فليفرحوا } في سورة يونس ( 58 ) .

وذكر الطيبي عن « أمالي السيد » ( يَعني ابنَ الشَجَري ) أن اجتماع الفاء والواو هنا من أعجب كلامهم لأن الفاء تعطف أو تدخل في الجواب وما أشبَهَ الجوابَ بالاسم الناقص ، أو في صلة الموصول الفعلية ( لشبهها بالجواب ) ، وهي هنا خارجة عما وضعت له ا ه . ولا يبقى تعجب بعد ما قررناه .