{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه } أي ولا تتولوا عن الرسول ، فإن المراد من الآية الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه ، وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله في طاعة الرسول لقوله تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقيل الضمير للجهاد أو للأمر الذي دل عليه الطاعة . { وأنتم تسمعون } القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله } الآية ، الخطاب للمؤمنين المصدقين ، جدد عليهم الأمر بطاعة الله والرسول ونهوا عن التولي عنه ، وهذا قول الجمهور ، ويكون هذا متناصراً مع قول من يقول : إن الخطاب بقوله { وإن تنتهوا } هو للمؤمنين ، فيجيء الكلام من نمط واحد في معناه ، وأما على قول من يقول إن المخاطبة ب { إن تنتهوا } هي للكفار فيرى أن هذه الآية إنما نزلت بسبب اختلافهم في النفل ومجادلتهم في الحق وكراهيتهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفاخرهم بقتل الكفار والنكاية فيهم ، وقالت فرقة : الخطاب بهذه الآية إنما هو للمنافقين والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط . قال القاضي أبو محمد : وهذا وإن كان محتملاً على بعد فهو ضعيف جداً لأجل أن الله وصف من خاطب في هذه الآية بالإيمان ، والإيمان التصديق ، والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء ، وقيل إن بالفعل المستقبل فحذفت الواحدة ، والمحذوفة هي تاء تفعل ، والباقية هي تاء العلامة ، لأن الحاجة إليها هنا أمس ليبقى الفعل مستقبلاً ، وقوله { وأنتم تسمعون } يريد دعاءه لكم بالقرآن والمواعظ والآيات ،
لما أراهم الله آيات لطفه وعنايته بهم ، ورأوا فوائِد امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى بدر ، وقد كانوا كارهين الخروج ، أعقب ذلك بأنْ أمَرَهم بطاعة الله ورسوله شكراً على نعمة النصر ، واعتباراً بأن ما يأمرهم به خيرٌ عواقبه ، وحذرهم من مخالفة أمر الله ورسول صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا رجوع إلى الأمر بالطاعة الذي افتتحت به السورة في قوله : { وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } [ الأنفال : 1 ] رجوع الخطيب إلى مقدمة كلامه ودليلهِ ليأخذها بعد الاستدلال في صورة نتيجة أسفر عنها احتجاجُه ، لأن مطلوب القياس هو عين النتيجة ، فإنه لما ابتدأ فأمرهم بطاعة الله ورسوله بقوله : { وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } [ الأنفال : 1 ] في سياق ترجيح ما أمرهم به الرسول عليه الصلاة والسلام على ما تهواه أنفسهم ، وضرب لهم مثلاً لذلك بحادثة كراهتهم الخروج إلى بدر في بدء الأمر ومجادلتهم للرغبة في عدمه ، ثم حادثة اختيارهم لقاء العير دون لقاء النفير خشية الهزيمة ، وما نجم عن طاعتهم الرسول عليه الصلاة والسلام ومخالفتهم هواهم ذلك من النصر العظيم والغُنم الوفير لهم مع نزارة الرزء ، ومن التأييد المبين للرسول صلى الله عليه وسلم والتأسيسسِ لإقرار دينه { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل } [ الأنفال : 7 ، 8 ] وكيف أمدهم الله بالنصر العجيب لمّا أطاعوه وانخلعوا عن هواهم ، وكيف هزَم المشركين ؛ لأنهم شاقوا الله ورسوله ، والمشاقة ضد الطاعة تعريضاً للمسلمين بوجوب التبرؤ مما فيه شائبة عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أمرهم بأمر شديد على النفوس ألا وهو { إِذَا لقيتم الذين كفروا زحْفاً فلا تولوهم الأدبار } [ الأنفال : 15 ] وأظهر لهم ما كان من عجيب النصر لما ثبتوا كما أمرهم الله { فلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم } [ الأنفال : 17 ] ، وضمن لهم النصر إن هم أطاعوا الله ورسوله وطلبوا من الله النصر ، أعقب ذلك بإعادة أمرهم بأن يطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه ، فذلكة للمقصود من الموعظة الواقعة بطولها عقب قوله : { وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } [ الأنفال : 1 ] وذلك كله يقتضي فصل الجملة عما قبلها ، ولذلك افتتحت ب { يا أيها الذين آمنوا } .
وافتتاح الخطاب بالنداء للاهتمام بما سيُلقى إلى المخاطبين قصداً لإحضار الذهن لوعي ما سيقال لهم ، فنزّل الحاضر منزلة البعيد ، فطلب حضوره بحرف النداء الموضوع لطلب الإقبال .
والتعريف بالموصولية في قوله : { يا أيها الذين آمنوا } للتنبيه على أن الموصوفين بهذه الصلة من شأنهم أن يتقبلوا ما سيؤمرون به ، وأنه كما كان الشرك مسبباً لمشاقة لله ورسوله في قوله : { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } [ الأنفال : 13 ] ، فخليق بالإيمان أن يكون باعثاً على طاعة الله ورسوله ، فقوله هنا : { يأيها الذين آمنوا } يساوي قوله في الآية المردود إليها : { إن كنتم مؤمنين } [ الأنفال : 1 ] ، مع الإشارة هنا إلى تحقق وصف الإيمان فيهم وأن إفراغه في صورة الشرط في الآية السابقة ما قصد منه إلاّ شحذ العزائم ، وبذلك انتظم هذا الأسلوب البديع في المحاورة من أول السورة إلى هنا انتظاماً بديعاً معجزاً .
والطاعة امتثال الأمر والنهي . والتولي الانصراف ، وتقدم آنفاً ، وهو مستعار هنا للمخالفة والعصيان .
وإفرادُ الضمير المجرور ب ( عن ) لأنه راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هذا المناسب للتولي بحسب الحقيقة . فإفراد الضمير هنا يشبه ترشيح الاستعارة ، وقد علم أن النهي عن التولي عن الرسول نهي عن الإعراض عن أمر الله لقوله : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [ الأعراف : 80 ] وأصل { تَولوا } تَتَولوا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً .
وجملة : { وأنتم تسمعون } في موضع الحال من ضمير { تولوا } والمقصود من هذه الحال تشويه التولي المنهي عنه ، فإن العصيان مع توفر أسباب الطاعة أشد منه في حين انخرَام بعضها . فالمراد بالسمع هنا حقيقته أي في حال لا يعوزكم ترك التولي بمعنى الإعراض وذلك لأن فائدة السمع العمل بالمسموع ، فمن سمع الحق ولم يعمل به فهو الذي لا يسمع سواء في عدم الانتفاع بذلك المسموع ، ولما كان الأمر بالطاعة كلام يطاع ظهر موقع { وأنتم تسمعون } فلما كان الكلام الصادر من الله ورسوله من شأنه أن يقبله أهل العقول كان مجرد سماعه مقتضياً عدم التولي عنه ، ضمن تولى عنه بعد أن سمعه فأمر عجب ثم زاد في تشويه التولي عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير من التشبه بفئة ذميمة يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام : سمعنا ، وهم لا يصدقونه ولا يعملون بما يأمرهم وينهاهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.