قوله تعالى : " والذاريات ذروا " قال أبو بكر الأنباري : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن ، عن يزيد بن خصيفة ، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه : إني مررت برجل{[14196]} يسأل عن تفسير مشكل القرآن ، فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فدخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن ، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال : يا أمير المؤمنين ما " الذاريات ذروا " فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ، ثم قال : ألبسوه ثيابه واحملوه على قَتَب وأبلغوا به حيه ، ثم ليقم خطيبا فليقل : إن صَبِيغا{[14197]} طلب العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم . وعن عامر بن واثلة أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ما " الذاريات ذروا " قال : ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا " والذاريات ذروا " الرياح " فالحاملات وقرا " السحاب " فالجاريات يسرا " السفن " فالمقسمات أمرا " الملائكة . وروى الحرث عن علي رضي الله عنه " والذاريات ذروا " قال : الرياح " فالحاملات وقرا " قال : السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر " فالجاريات يسرا " قال : السفن موقرة " فالمقسمات أمرا " قال : الملائكة تأتي بأمر مختلف ، جبريل بالغلظة ، وميكائيل صاحب الرحمة ، وملك الموت يأتي بالموت . وقال الفراء : وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث{[14198]} . ويقال : ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا . ثم قيل : " والذاريات " وما بعده أقسام ، وإذا أقسم الرب بشيء أثبت له شرفا . وقيل : المعنى ورب الذاريات ، والجواب " إنما توعدون " أي الذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب " لصادق " لا كذب فيه ، ومعنى " لصادق " لصدق ، وقع الاسم موقع المصدر . " وإن الدين لواقع " يعني الجزاء نازل{[14199]} بكم . ثم ابتدأ قسما آخر فقال : " والسماء ذات الحبك . إنكم لفي قول مختلف " [ الذاريات : 7 ] وقيل إن الذاريات النساء الولودات ؛ لأن في ذرايتهن ذرو الخلق ؛ لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات ، وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين . وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لأمرين : أحدهما : لأنهن أوعية دون الرجال ، فلاجتماع الذّروين فيهن خصصن بالذِّكر . الثاني : أن الذّرو فيهن أطول زمانا ، وهن بالمباشرة أقرب عهدا . " فالحاملات وقرا " السحاب . وقيل : الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل . والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن ، يقال : جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره . وأكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار ، والوسق في حمل البعير . وهذه امرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا . وأوقرت النخلة كثر حملها ، يقال : نخلة موقرة وموقر وموقرة ، وحكي موقر وهو على غير القياس ؛ لأن الفعل للنخلة . وإنما قيل : موقر بكسر القاف على قياس{[14200]} قولك امرأة حامل ؛ لأن حمل الشجر مشبه بحمل النساء ، فأما موقر بالفتح فشاذ ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا :
عَصَبٌ كَوَارِعُ في خليجٍ مُحَلَّمٍ *** حَمَلَتْ فمنها مُوقَرٌ مَكْمُومُ
والجمع مواقر . فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الأذن ، وقد وقرت أذنه توقر وقرا أي صمت ، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في " الأنعام{[14201]} " القول فيه . " فالجاريات يسرا " السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت . وقيل : السحاب ، وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان : أحدهما : إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع . الثاني : هو سهولة تسييرها ، وذلك معروف عند العرب ، كما قال الأعشى :
كأن مِشْيَتَها من بيت جارتها *** مشيُ السحابة لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ
ولما كان أجل وعيدهم وما يتعلق بالجزاء يوم القيامة وكانوا ينكرونه ، قال : { وإن الدين } أي المجازاة لكل أحد بما كسب يوم البعث ، والشرع الذي أرسلت به هذا النبي الكريم { لواقع * } لا بد منه وإن أنكرتم ذلك ، فيظهر دينه على الدين كله كما وعد بذلك ، ثم نقيم الناس كلهم للحساب .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما ذكر سبحانه المواعيد الأخراوية{[61305]} في سورة ق وعظيم تلك الأحوال من لدن قوله { وجاءت سكرة الموت بالحق } إلى آخر السورة ، أتبع{[61306]} سبحانه ذلك بالقسم على وقوعه وصدقه فقال : { والذاريات ذرواً } إلى-{[61307]} قوله : { إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع } والدين الجزاء ، أي أنهم سيجازون {[61308]}على ما{[61309]} كان منهم ويوفون قسط أعمالهم { فلا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون } { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } . ولما أقسم الله على صدق وعده ووقوع الجزاء ، عقب ذلك بتكذيبهم بالجزاء وازدرائهم فقال { يسألون أيان يوم الدين } ثم ذكر تعالى حال الفريقين وانتهاء الطريقين إلى قوله : { وفي الأرض آيات للموقنين } فوبخ تعالى من لم يعمل فكره ولا بسط نظره فيما أودع سبحانه في العالم من العجائب ، وأعقب بذكر إشارات إلى أحوال الأمم وما أعقبهم تكذيبهم ، وكل هذا تنبيه لبسط النظر إلى قوله : { ومن كل شيء خلقنا } بقوله : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } أي إن هذا دأبهم وعادتهم حتى كأنهم تعاهدوا عليه وألقاه بعضهم إلى بعض فقال تعالى : { تواصوا به أم هم قوم طاغون } أي عجباً لهم في جريهم على التكذيب و-{[61310]}الفساد في مضمار واحد ، ثم قال تعالى : { بل هم قوم طاغون } أي أن علة تكذيبهم هي-{[61311]} التي اتحدت فاتحد معلولها ، والعلة طغيانهم وإظلام قلوبهم بما سبق { ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها } ثم زاد نبيه عليه السلام أشياء مما ورد {[61312]}على طريقة{[61313]} تخييره عليه السلام في أمرهم من قوله تعالى : { فتول عنهم فما أنت بملوم } ثم أشار تعالى بقوله : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } إلى أن إحراز أجره عليه السلام إنما هو في التذكار والدعاء إلى الله تعالى ، ثم ينفع الله بذلك من سبقت له السعادة { إنما يستجيب الذين يسمعون } ثم أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بأن تكذيبه {[61314]}سينالهم قسط{[61315]} ونصيب مما نال غيرهم{[61316]} من ارتكب{[61317]} مرتكبهم ، وسلك مسلكهم ، فقال تعالى { وإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم } إلى آخر السورة - انتهى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.