تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَإِذَا بَطَشۡتُم بَطَشۡتُمۡ جَبَّارِينَ} (130)

[ الآيتان 128 و129 ] وقوله تعالى : { أتبنون بكل ريع آية تعبثون } { وتتخذون مصانع } هذا يحتمل وجوها :

أحدهما : كأنهم كانوا يبنون بنيانا ، لا حاجة لهم إلى ذلك البنيان ، ولا ينتفعون به ، فهو عبث ، لأن كل من بنى بناء أو عمل عملا ، لا ينتفع به ، ولا يحتاج إليه ، فو عابث . لذلك سمى ما بنوا عبثا .

والثاني : جائز أن يكون ذلك المكان لهم ، كان مكان العبث والاجتماع للهو ، فبنوا ذلك المكان ، فسماه عبثا لما لم يكن اجتماعهم في ذلك إلا للعبث واللهو .

والثالث : أن يكون ذلك المكان مكانا ، يمر فيه الناس ، فبنوا أعلاما ، يضلون الناس بها لما يرون أنه طريق ، ولم يكن ذلك ، فكان قصدهم بذلك البناء باطلا . وكل باطل عبث ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { لعلكم تخلدون } ولا تموتون ، أي تنفقون نفقة من يطمع أن يخلد في هذه الدنيا ، ليست بنفقة من يموت ، ويرجو ثوابه [ لا عقابه ]{[14749]} ، أو يكون قوله : { لعلكم تخلدون } لما وسع عليهم الدنيا ، ورزقهم{[14750]} /384- ب/ الدعة ، يحسبون أنهم يخلدون ، لأن من وسع عليه الدنيا ، ونال{[14751]} الدعة والسعة في هذه الدنيا ، يطمئن فيها ، ويسكن ، وهو كما قال : { يحسب أن ماله أخلده } [ الهمزة : 3 ] فعلى ذلك الأول ، والله أعلم .

والريع ، هو المكان المرتفع . وقال بعضهم : هو الطريق : و{ مصانع } قال بعضهم : البنيان ، وقيل : الحياض .

وقال أبو عوسجة : الريع : ما ارتفع من الأرض ، وجمع الريعة ريع ، وجمع الريع أرياع ، وهما واحد ، والريع الربح أيضا . تقول : أراع [ المال ]{[14749]} إذا ربحت عليه ، وجمعه أرياع . ومصانع : في موضع قصور ، وموضع حياض يجتمع فيها الماء ، الواحد : مصنعة من كليهما . وقال : البطش : الأخذ ؛ يقال : بطشت بفلان ، أبطش بطشا ، إذا أخذته ، وقبضت عليه .

وقال القتبي أيضا : الريع : الارتفاع من الأرض ، والمصانع البناء ، واحدها مصنعة ، فكان المعنى أنهم يستوثقون في البناء والحصون ، ويذهبون إلى أنها{[14750]} تحصنهم من أقدار الله وقضائه . وهذا يشبه أن يكون ما ذكر لأنه قال في آخره : { لعلكم تخلدون } أي تبنون بناء ، كأنكم تخلدون ، ولا تموتون ، وقال : { وإذا بطشتم بطشتم جبارين } أي إذا ضربتم بالسياط ضربتم ضرب الجبارين ، وإذا عاقبتم قتلتم . وقال بعضهم : بطشتم أخذتم بالظلم والاعتداء والاستحلال لما حرم الله .

وقال أبو معاذ : وكل بناء مصنعة . وفي حرف حفصة : وتبنون مصانع كأنكم خالدون . والآية العلم .

وقال بعضهم : الريع ما استقبل الطريق من الجبال و الظراب .

وقال قتادة : كل نشز في الأرض ، وقال محمد بن إسحاق : إنهم كانوا إذا سافروا فلا يهتدون إلا بالنجوم فبنوا القصور الطوال عبثا علما بكل طريق يهتدون بها في طرقهم .

وقال بعضهم : { مصانع } أي مجالس ومساكن { لعلكم تخلدون } ما بقيت مصانعكم ، والجبار ، هو الذين يضرب ، أو يقتل بلا حق بلا خوف تبعة في العاقبة .

[ الآية 130 ] وقوله تعالى : { وإذا بطشتم بطشتم جبارين } عنى ، والله أعلم ، بالجبار الظالم والمتعدي ، أي وإذا بطشتم ظالمين .


[14749]:- في الأصل وم: وعاقته.
[14750]:- في الأصل: أو رزق لهم، في م: ورزق.
[14751]:- من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: ويكون.