يقول تعالى ذكره : أفأمن يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله ويجحدون آياته ، استدراج الله إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة الأبدان ورخاء العيش ، كما استدرج الذين قصّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم ، فإن مكر الله لا يأمنه ، يقول : لا يأمن ذلك أن يكون استدراجا مع مقامهم على كفرهم وإصرارهم على معصيتهم إلاّ القوم الخاسرون وهم الهالكون .
قوله : { أوْ أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسناً ضحى وهم يلعبون } قرأه نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر بسكون الواو على أنه عطف بحرف ( أو ) الذي هو لأحد الشيئين عطفاً على التعجيب ، أي : هو تعجيب من أحد الحالين . وقرأه الباقون بفتح الواو على أنه عطف بالواو مقدمة عليه همزةُ الاستفهام ، فهو عطف استفهام ثان بالواو المفيدة للجمع ، فيكون كلا الاستفهامين مدخولاً لفاء التعقيب ، على قول جمهور النحاة ، وأما على رأي الزمخشري فيتعين أن تكون الواو للتقسيم ، أي تقسيم الاستفهام إلى استفهامين ، وتقدم ذكر الرأيين عند قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسول } في سورة البقرة ( 87 ) .
و { بياتاً } تقدم معناه ووجه نصبه عند قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسناً بياتاً } في أول هذه السورة ( 4 ) .
والضحَى بالضم مع القصر هو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرق وارتفع ، وفسره الفقهاء بأن ترتفع الشمس قيد رمح ، ويرادفه الضحوة والضّحْوُ .
والضحى يذكر ويؤنث ، وشاع التوقيت به عند العرب ومن قبلهم ، قال تعالى حكاية عن موسى : { قال مَوْعدكُمْ يوم الزينة وأن يُحشر الناس ضُحى } [ طه : 59 ] .
وتقييد التعجيب من أمْنهم مجيءَ البأس ، بوقتي البيات والضحى ، من بين سائر الأوقات ، وبحالي النوم واللعب ، من بين سائر الأحوال ، لأن الوقتين أجدر بأن يحذر حلول العذاب فيهما ، لأنهما وقتان للدعة ، فالبيات للنوم بعد الفراغ من الشغل .
والضحى للعب قبل استقبال الشغل ، فكان شأن أولي النهى المعرضين عن دعوة رسل الله أن لا يأمنوا عذابه ، بخاصة في هذين الوقتين والحالين .
وفي هذا التعجيب تعريض بالمشركين المكذبين للنبيء صلى الله عليه وسلم أن يحل بهم ما حلَّ بالأمم الماضية ، فكان ذكر وقت البيات ، ووقت اللعب ، أشد مناسبة بالمعنى التعريضي . تهديداً لهم بأن يصيبهم العذاب بأفظع أحواله ، إذ يكون حلوله بهم في ساعة دعتهم وساعة لهوهم نكاية بهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 97]
يقول تعالى ذكره: أفأمن يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله ويجحدون آياته، استدراج الله إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة الأبدان ورخاء العيش، كما استدرج الذين قصّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم، فإن مكر الله لا يأمنه، يقول: لا يأمن ذلك أن يكون استدراجا مع مقامهم على كفرهم وإصرارهم على معصيتهم إلاّ القوم الخاسرون وهم الهالكون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكّر بهذا، والله أعلم، أهل مكة وغيرهم من الكفرة بتكذيبهم رسول الله لئلا يكونوا آمنين عن بأس أبدا في وقت من الأوقات، والله اعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أكثر ما ينزل البلاء ينزل فجأةً على غفلةٍ من أهله، ويقال مَنْ حَذِرَ البيات لم يجدْ روْحَ الرُّقاد. ويقال رُبَّ ليلةٍ مُفْتَتَحةٍ بالفَرَحِ مختتمةٌ بالترح. ويقال رُبّ يومٍ تطلع شمسه من أوج السعادة قامت ظهيرته على قيام الفتنة.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
وقوله {وهم يلعبون} أي وهم في غير ما يجدي عليهم.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
والضحى: صدر النهار، ووقت انبساط الشمس.
وقوله: {وهم يلعبون} يحتمل التشاغل بأمور الدنيا، فهي لعب ولهو، ويحتمل خوضهم في كفرهم، لأن ذلك كاللعب في أنه لا يضر ولا ينفع...
وقوله: {ضحى} الضحى صدر النهار، وأصله الظهور من قولهم: ضحا للشمس إذا ظهر لها.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
والمعنى: أو أمنوا هذه الضروب من العقوبات. أي إن أمنتم ضربا منها لم تأمنوا الآخر.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
[...] وتكرر لفظ {أهل القرى} لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد والوعيد بالسامع ما لا يكون في الضمير لو جاء أو أمنوا فإنه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ربما قال جاهل: لو جاءهم وهم أيقاظ لأمكن أن يدافعوا! قال: {أو أمن أهل القرى} أي مجتمعين أو منفردين فإنه لا فرق عندنا في ذلك {أن يأتيهم بأسنا ضحى} أي وقت راحتهم واجتماع قواهم ونشاطهم؛ ولما كانت اليقظة موجبة للحركة، عبر بالمضارع في قوله: {وهم يلعبون} أي يتجدد لعبهم شيئاً فشيئاً في ذلك الوقت، وفيه تقريع لهم بنسبتهم إلى أنهم صبيان العقول، لا التفات لهم إلى غير اللعب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهو يلعبون} قرأ نافع وابن كثير وابن عامر "أو "بسكون الواو، والمعنى بحسب أصل اللغة أأمنوا ذلك الإتيان أو هذا؟ وهو لا يمنع الجمع بين الأمنين- وقرأ الباقون بفتح الواو على أن الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف كالذي قبله، وقد أعيد الاستفهام وما يتعلق به لنكتة وضع المظهر موضع المضمر التي بيناها آنفا. والضحى انبساط الشمس وامتداد النهار ويسمى به الوقت، أو ضوء الشمس في شباب النهار، واختاره الأستاذ الإمام. واللعب بفتح اللام وكسر العين ما لا يقصد فاعله بسبب منفعة ولا دفع مضرة بل يفعله لأنس له به أو لذة فيه كلعب الأطفال، وما يقصد به العقلاء رياضة الجسم قد يخرج عن حقيقة اللعب ويكون إطلاقه عليه مجازيا بحسب صورته، وكم من عمل صورته لعب أو هزل، وحقيقته حكمة وجد، وكم من عمل هو عكس ذلك كالعمل الفاسد الذي يقصد به ما يظن أنه نافع وهو ضار وما يتوهم أنه حكمة وهو عبث وخرق، وقد يكون إطلاق اللعب على أعمال هؤلاء الجاهلين الغافلين من هذا الباب: أي أو أمن أهل القرى أن يأتيهم عذابنا في وقت الضحى وهم منهمكون في أعمالهم التي تعد من قبيل لعب الأطفال لعدم فائدة تترتب عليها مطلقا أو بالنسبة إلى ما كان يجب تقديمه عليها من سلوك سبيل السلامة من العذاب؟
فأما أهل القرى من الغابرين فالظاهر ما حكاه الله تعالى عنهم أنهم كانوا آمنين إتيان هذا العذاب ليلا ونهارا فكان إتيانه إياهم فجأة في وقت لا يتسع لتلافيه وتداركه فالاستفهام لا يظهر في شأنهم إلا بتأول لا يحتاج إلى مثله في أهل القرى الحاضرين، ومن سيكون في حكمهم من الآيتين، والمراد أنه لم يكن لهم أن يأمنوا لو كانوا يعلمون، فإن وجود النعم ليس دليلا على دوامها، فكم من نعمة زالت بكفر أهلها، وهذا ما كان يجهله الذين قالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء، فرأوا صورة الواقع وجهلوا أسبابه. وأما الحاضرون فلا يعذرون بالجهل، بعد أن بين لهم القرآن كنه الأمر، وسنن الله في الخلق، ولكن أدعياء القرآن، قد صاروا أجهل البشر بما جاء به القرآن، ويدعي بعضهم أن سبب جهلهم الانتماء إلى دين القرآن!!!
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: أي شيء يؤمنهم من ذلك، وهم قد فعلوا أسبابه، وارتكبوا من الجرائم العظيمة، ما يوجب بعضه الهلاك؟!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتقييد التعجيب من أمْنهم مجيءَ البأس، بوقتي البيات والضحى، من بين سائر الأوقات، وبحالي النوم واللعب، من بين سائر الأحوال، لأن الوقتين أجدر بأن يحذر حلول العذاب فيهما، لأنهما وقتان للدعة، فالبيات للنوم بعد الفراغ من الشغل. والضحى للعب قبل استقبال الشغل، فكان شأن أولي النهى المعرضين عن دعوة رسل الله أن لا يأمنوا عذابه، بخاصة في هذين الوقتين والحالين. وفي هذا التعجيب تعريض بالمشركين المكذبين للنبيء صلى الله عليه وسلم أن يحل بهم ما حلَّ بالأمم الماضية، فكان ذكر وقت البيات، ووقت اللعب، أشد مناسبة بالمعنى التعريضي. تهديداً لهم بأن يصيبهم العذاب بأفظع أحواله، إذ يكون حلوله بهم في ساعة دعتهم وساعة لهوهم نكاية بهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وهم يلعبون} سمى الله تعالى عملهم لعبا، واللعب هو العمل العابث الذي لا يقصد ضرا ولا نفعا، سمى – سبحانه وتعالى – عملهم لعبا لأنهم ما داموا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر يكون عملهم كاللعب؛ لأن القصد الطيب هو أن يكون طاعة لله تعالى، وقد عصوه، فإن العمل الذي يخرج عن اللعب هو عمل الخير، ولا خير في معصية، ولا خير يكون من جاحد يشرك مع الله أحدا.
إذن فنهارهم هو حركة غير مجدية، وغير نافعة، بل هي لعب في الحياة الدنيا، وليلهم نوم وفقد للحركة، أو عبث ومجون وانحراف، وكل من يسير على غير منهج الله يقضي ليله نائما أو لاهيا أو عاصيا، ونهاره لاعبا؛ لأن عمله مهما عظُم، ليس له مقابل في الآخرة من الجزاء الحسن.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يعني أنّهم في قبضة القدرة الإِلهية في جميع الأحوال والأوقات، ليلا ونهاراً، في اليقظة والنوم، في ساعات الفرح والترح، وبإشارة واحدة وأمر واحد يقضى عليهم جميعاً، ويطوي صفحة حياتهم نهائياً، دون الحاجة إلى مقدمات وأسباب قبلية، أو لمرور الزمان لهذا العمل...