وقوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } أي : إذا فَرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها ، فانصب في العبادة ، وقم إليها نشيطا فارغ البال ، وأخلص لربك النية والرغبة . ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته : " لا صلاة بحضرة طعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان " {[30227]} وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء ، فابدءوا بالعَشَاء " {[30228]} .
قال مجاهد في هذه الآية : إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة ، فانصب لربك ، وفي رواية عنه : إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك ، وعن ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل . وعن ابن عياض نحوه . وفي رواية عن ابن مسعود : { فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } يعني : في الدعاء .
وقال زيد بن أسلم ، والضحاك : { فَإِذَا فَرَغْتَ } أي : من الجهاد { فَانْصَبْ } أي : في العبادة . { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } قال الثوري : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله ، عز وجل .
وقوله : وَإلى رَبّكَ فارْغَبْ يقول تعالى ذكره : وإلى ربك يا محمد فاجعل رغبتك ، دون من سواه من خلقه ، إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَإلى رَبّكَ فارْغَبْ قال : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَإلى رَبّكَ فارْغَبْ قال : اجعل رغبتك ونيتك إلى ربك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَإلى رَبّكَ فارْغَبْ قال : إذا قمت إلى الصلاة .
عُطِفَ على تفريع الأمر بالشكر على النعم أمر بطلب استمرار نعم الله تعالى عليه كما قال تعالى : { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 7 ] .
والرغبة : طلب حصول ما هو محبوب وأصله أن يعدى إلى المطلوب منه بنفسه ويعدى إلى الشيء المطلوب ب ( في ) . ويقال : رغب عن كذا بمعنى صرَف رغبتهُ عنه بأن رغب في غيره وجُعل منه قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] بتقدير حرف الجر المحذوف قبل حرف ( أنْ ) هو حرف ( عَن ) . وذلك تأويل عائشة أم المؤمنين كما تقدم في سورة النساء .
وأما تعدية فعل { فارغب } هنا بحرف { إلى } فلتضمينه معنى الإِقبال والتوجه تشبيهاً بسير السائر إلى من عنده حاجته كما قال تعالى عن إبراهيم : { وقال إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] .
وتقديم إلى { ربك } على { فارغب } لإِفادة الاختصاص ، أي إليه لا إلى غيره تكون رغبتك فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق فلا يليق بصاحبها أن يرغب غير الله تعالى .
وحُذف مفعول « ارغب » ليعم كل ما يرغبه النبي صلى الله عليه وسلم وهل يرغب النبي إلا في الكمال النفساني وانتشار الدين ونصر المسلمين .
واعلم أن الفاء في قوله : { فانصب } [ الشرح : 7 ] وقوله : { فارغب } رابطة للفعل لأن تقديم المعمول يتضمن معنى الاشتراط والتقييد فإن تقديم المعمول لما أفاد الاختصاص نشأ منه معنى الاشتراط ، وهو كثير في الكلام قال تعالى : { بل الله فاعبد } [ الزمر : 66 ] وقال : { وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر } [ المدثر : 3 5 ] ، وفي تقديم المجرور قال تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمَن سأل منه أن يَخرج للجهاد : " ألكَ أبَوان ؟ قال : نعم : فقال ففيهما فجاهد " . بل قد يعامل معاملة الشرط في الإِعراب كما روي قول النبي صلى الله عليه وسلم " كما تَكونُوا يُوَلَّ عليكم " بجزم الفعلين ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { فبذلك فليفرحوا } في سورة يونس ( 58 ) .
وذكر الطيبي عن « أمالي السيد » ( يَعني ابنَ الشَجَري ) أن اجتماع الفاء والواو هنا من أعجب كلامهم لأن الفاء تعطف أو تدخل في الجواب وما أشبَهَ الجوابَ بالاسم الناقص ، أو في صلة الموصول الفعلية ( لشبهها بالجواب ) ، وهي هنا خارجة عما وضعت له ا ه . ولا يبقى تعجب بعد ما قررناه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ وإلى ربك } بالدعاء { فارغب } إليه في المسألة ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإلى ربك يا محمد فاجعل رغبتك ، دون من سواه من خلقه ، إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد ....
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وإلى ربك } أي المحسن إليك بما ذكر في هاتين السورتين خاصة { فارغب } أي بالسؤال لأنه القادر وحده كما قدر على تربيتك فيما مضى وحده ، لأنه المختص بالعظمة ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتنتهي هذه السورة كما انتهت سورة الضحى ، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين : الشعور بعظمة الود الحبيب الجليل الذي ينسم على روح الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من ربه الودود الرحيم . والشعور بالعطف على شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونة التي اقتضت ذلك الود الجميل . إنها الدعوة . هذه الأمانة الثقيلة وهذا العبء الذي ينقض الظهر . وهي مع هذا وهذا مشرق النور الإلهي ومهبطه ، ووصلة الفناء بالبقاء ، والعدم بالوجود ! ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأما تعدية فعل { فارغب } هنا بحرف { إلى } فلتضمينه معنى الإِقبال والتوجه تشبيهاً بسير السائر إلى من عنده حاجته، كما قال تعالى عن إبراهيم : { وقال إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] . وتقديم إلى { ربك } على { فارغب } لإِفادة الاختصاص ، أي إليه لا إلى غيره تكون رغبتك، فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق، فلا يليق بصاحبها أن يرغب غير الله تعالى . وحُذف مفعول « ارغب » ليعم كل ما يرغبه النبي صلى الله عليه وسلم، وهل يرغب النبي إلا في الكمال النفساني وانتشار الدين ونصر المسلمين ....
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية : - بيان أن حياة المؤمن ليس فيها لهو ولا باطل ولا فراغ لا عمل فيه أبدا ولا ساعة من الدهر قط ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أي فاعتمد على اللّه في كلّ الأحوال . اطلب رضاه ، واسع لقربه . الآيتان حسب ما ذكرناه لهما مفهوم واسع عام يقضي بالبدء بمهمّة جديدة بعد الفراغ من كلّ مهمّة . وبالتوجه نحو اللّه في كلّ المساعي والجهود ، لكن أغلب المفسّرين ذكروا معاني محددة لهما يمكن أن يكون كلّ واحد منها مصداقاً للآيتين . ...