القول في تأويل قوله تعالى : { فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الّذِيَ أَنزَلْنَا وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : فصدّقوا بالله ورسوله أيها المشركون المكذّبون بالبعث ، وبإخباره إياكم أنكم مبعوثون من بعد مماتكم ، وأنكم من بعد بلائكم تنشرون من قبوركم ، والنور الذي أنزلنا يقول : وآمنوا بالنور الذي أنزلنا ، وهو هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يقول تعالى ذكره : والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة محيط بها ، محصٍ جميعها ، لا يخفى عليه منها شيء ، وهو مجازيكم على جميعها .
من جملة القول المأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوله .
والفاء فصيحة تفصح عن شرط مقدّر ، والتقدير : فإذا علمتم هذه الحجج وتذكّرتم ما حلّ بنظرائكم من العقاب وما ستَنبّؤونَ به من أعمالكم فآمنوا بالله ورسوله والقرآن ، أي بنصه .
والمراد بالنور الذي أنْزَل الله ، القرآن ، وُصف بأنه نور على طريقة الاستعارة لأنه أشبه النور في إيضاح المطلوب باستقامة حجته وبلاغة كلامه قال تعالى : { وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } [ النساء : 174 ] . وأشبه النور في الإِرشاد إلى السلوك القويم وفي هذا الشبه الثاني تشاركه الكتب السماوية ، قال تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] ، وقرينة الاستعارة قوله : { الذي أنزلنا } ، لأنه من مناسبات المشبَّه لاشتهار القرآن بين الناس كلهم بالألقاب المشتقة من الإِنزال والتنزيل عَرَف ذلك المسلمون والمعاندون . وهو إنزال مجازي أريد به تبليغ مراد الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تقدم عند قوله تعالى : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } في سورة البقرة ( 4 ) وفي آيات كثيرة .
وإنما جعل الإِيمان بصدق القرآن داخلاً في حيّز فاء التفريع لأن ما قبل الفاء تضمن أنهم كذبوا بالقرآن من قوله : { ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا } [ التغابن : 6 ] كما قال المشركون من أهل مكة ، والإِيمان بالقرآن يشمل الإِيمان بالبعث فكان قوله تعالى : { والنور الذي أنزلنا } شاملاً لما سبق الفاء من قوله : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } [ التغابن : 7 ] الخ .
وفي قوله : { الذي أنزلنا } التفات من الغيبة إلى المتكلم لزيادة الترغيب في الإِيمان بالقرآن تذكيراً بأنه منزل من الله لأن ضمير التكلم أشد دلالة على معاده من ضمير الغائب ، ولتقوية داعي المأمور .
وجملة { والله بما تعملون خبير } تذييل لجملة { فآمنوا بالله ورسوله } يقتضي وعداً إنْ آمنوا ، ووعيداً إن لم يؤمنوا .
وفي ذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإِضمار لتكون الجملة مستقلة جارية مجرى المثل والكلممِ الجوامع ، ولأن الاسم الظاهر أقوى دلالة من الضمير لاستغنائه عن تطلب المعاد . وفيه من تربيَة المهابة ما في قول الخليفة « أمير المؤمنين يأمركم بكذا » .
والخبير : العَليم ، وجيء هنا بصفة « الخبير » دون : البصير ، لأن ما يعلمونه منه محسوسات ومنه غير محسوسات كالمعتقدات ، ومنها الإِيمان بالبعث ، فعُلق بالوصف الدال على تعلق العلم الإلهي بالموجودات كلها ، بخلاف قوله فيما تقدم { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير } [ التغابن : 2 ] فإن لكفر الكافرين وإيمان المؤمنين آثاراً ظاهرة محسوسة فعلقت بالوصف الدال على تعلق العلم الإلهي بالمحسوسات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فآمنوا} يعني صدقوا {بالله} أنه واحد لا شريك له {ورسوله} محمد صلى الله عليه وسلم {والنور} يعني القرآن {الذي أنزلنا} على محمد صلى الله عليه وسلم {والله بما تعملون} من خير أو شر {خبير}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فصدّقوا بالله ورسوله أيها المشركون المكذّبون بالبعث، وبإخباره إياكم أنكم مبعوثون من بعد مماتكم، وأنكم من بعد بلائكم تنشرون من قبوركم،" والنور الذي أنزلنا "يقول: وآمنوا بالنور الذي أنزلنا، وهو هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
"وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" يقول تعالى ذكره: والله بأعمالكم أيها الناس ذو خبرة محيط بها، محصٍ جميعها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميعها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فآمنوا أنتم بالله ورسوله لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من البأس والعقوبة، والله أعلم... وقوله تعالى: {والنور الذي أنزلنا} النور هو القرآن، ويجوز أن يكون سماه نورا لأنه يبصر به حقيقة المذاهب في الطاعة والمعصية والإحسان والإساءة والإيمان والكفر كما يبصر بنور النهار حقيقة الأشياء من جيدها ورديها، كذلك يبصر بهذا منافع الطاعة ومضار المعصية، فسماه نورا من هذا الوجه، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(النور الذي أنزلنا) يعني القرآن، سماه نورا لما فيه من الأدلة والحجج الموصلة إلى الحق فشبهه بالنور الذي يهتدى به على الطريق...
{والنور الذي أنزلنا} وهو القرآن فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات، وإنما ذكر النور الذي هو القرآن لما أنه مشتمل على الدلالات الظاهرة على البعث...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والمقطع الثالث بقية للمقطع الثاني يحكي تكذيب الذين كفروا بالبعث -وظاهر أن الذين كفروا هم المشركون الذين كان الرسول [صلى الله عليه وسلم] يواجههم بالدعوة- وفيه توجيه للرسول أن يؤكد لهم أمر البعث توكيدا وثيقا. وتصوير لمشهد القيامة ومصير المكذبين والمصدقين فيه؛ ودعوة لهم إلى الإيمان والطاعة ورد كل شيء لله فيما يقع لهم في الحياة:
"زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا. قل بلى وربي لتبعثن، ثم لتنبؤن بما عملتم. وذلك على الله يسير. فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا. والله بما تعملون خبير..."
ومنذ البدء يسمي مقالة الذين كفروا عن عدم البعث زعما، فيقضي بكذبه من أول لفظ في حكايته. ثم يوجه الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى توكيد أمر البعث بأوثق توكيد، وهو أن يحلف بربه. وليس بعد قسم الرسول بربه توكيد: (قل: بلى وربي لتبعثن).. (ثم لتنبؤن بما عملتم).. فليس شيء منه بمتروك. والله أعلم منهم بعملهم حتى لينبئهم به يوم القيامة! (وذلك على الله يسير).. فهو يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم السر والعلن وهو عليم بذات الصدور. وهو على كل شيء قدير. كما جاء في مطلع السورة تمهيدا لهذا التقرير.