( والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها ) . .
ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها ، بحيث تصبح صالحة للسير عليها ، وتكوين تربة تصلح للإنبات ، وإرساء الجبال وهو نتيجة لاستقرار سطح الأرض ووصول درجة حرارته إلى هذا الاعتدال الذي يسمح بالحياة . والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع ، أو ما ينزل من السماء فهو أصلا من مائها الذي تبخر
ثم نزل في صورة مطر . وأخرج من الأرض مرعاها وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام وتعيش عليه الأحياء مباشرة وبالواسطة . .
وكل أولئك قد كان بعد بناء السماء ، وبعد إغطاش الليل وإخراج الضحى . والنظريات الفلكية الحديثة تقرب من مدلول هذا النص القرآني حين تفترض أنه قد مضى على الأرض مئات الملايين من السنين ، وهي تدور دوراتها ويتعاقب الليل والنهار عليها قبل دحوها وقبل قابليتها للزرع . وقبل استقرار قشرتها على ما هي عليه من مرتفعات ومستويات .
وقوله : { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي : قررها وأثبتها وأكَّدها في أماكنها ، وهو الحكيم العليم ، الرءوف بخلقه الرحيم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حَوشب ، عن سليمان بن أبي سليمان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما خلق الله الأرض جعلت تَمِيد ، فخلق الجبال فألقاها عليها ، فاستقرت فتعجبت الملائكةُ من خلق الجبال فقالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال نعم ، الحديد . قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال : نعم ، النار . قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال : نعم ، الماء . قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال : نعم ، الريح . قالت : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال : نعم ، ابن آدم ، يتصدق بيمينه يخفيها من{[29686]} شماله " {[29687]} .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابنُ حميد ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ ، عن علي قال : لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : تخلق عَلَيّ آدم وذريته ، يلقون علي نتنهم ويعملون عَلَيّ بالخطايا ، فأرساها الله بالجبال ، فمنها ما ترون ، ومنها ما لا ترون ، وكان أول قَرَار الأرض كلحم الجزور إذا نحِر ، يختلج لحمه . غريب{[29688]} .
وقوله : والجِبالَ أرْساها يقول : والجبال أثبتها فيها ، وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره ، وهو فيها ، وذلك أن معنى الكلام : والجبال أرساها فيها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة والجِبالَ أرْساها : أي أثبتها لا تَمِيد بأهلها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن السّلَمِيّ ، عن عليّ قال : لما خلق الله الأرض قَمَصَت وقالت : تَخْلُق عليّ آدمَ وذرّيته يُلقون عليّ نَتْنهم ، ويعملون عليّ بالخطايا فأرساها الله ، فمنها ما ترون ، ومنها ما لا ترون ، فكان أوّل قرار الأرض كلحم الجزور إذا نُخِر يختلج لحمها .
ونَصب { والجبال } يجوز أن يكون على طريقة نصب { والأرض بعد ذلك دحاها } ويجوز أن يكون عطفاً على { ماءها ومرعاها } ويكون المعنى : وأخرج منها جبالها ، فتكون ( ال ) عوضاً عن المضاف إليه مثل { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] أي مأوى من خافَ مقام ربه فإن الجبال قطع من الأرض ناتئة على وجه الأرض .
وإرساء الجبال : إِثباتُها في الأرض ، ويقال : رست السفينة ، إذا شُدّت إلى الشاطىء فوقفت على الأَنْجَرِ ، ويوصف الجبل بالرسوّ حقيقة كما في « الأساس » ، قال السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم يذكر جبلهم :
رسَا أصلُه فوق الثرى وسمَا به *** إلى النجم فَرع لا يُنال طويل
وإثبات الجبال : هو رسوخها بتغلْغُل صخورها وعروق أشجارها لأنها خلقت ذات صخور سائخة إلى باطن الأرض ولولا ذلك لزعزعتها الرياح ، وخُلقت تتخلّلها الصخور والأشجار ولولا ذلك لتهيلت أتربتها وزادها في ذلك أنها جُعلت أحجامها متناسبة بأن خلقت متسعة القواعد ثم تتصاعد متضائقة .
ومن معنى إرسائها : أنها جعلت منحدرة ليتمكن الناس من الصعود فيها بسهولة كما يتمكن الراكب من ركوب السفينة الراسية ولو كانت في داخل البحر ما تمكن الراكب من ركوبها إلا بمشقة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول: أوتدها في الأرض لئلا تزول، فاستقرت بأهلها...
ابن رشد: قال مالك: يريد أثبتها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
والجبال أثبتها فيها، وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره، وهو فيها، وذلك أن معنى الكلام: والجبال أرساها فيها..
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أي وأثبت الجبال في الارض. والإرساء: الإثبات بالثقل...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أرساها} أي أثبتها وأقرها و- مع كونها ثابتة لا تتحول فإنه سبحانه جعلها مراسي للأرض تكون سبباً لثباتها كما أن المراسي سبب لثبات السفينة...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
ونظيره قوله تعالى: {والجبال أوتاداً} [النبأ: 7]...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ونَصب {والجبال} يجوز أن يكون على طريقة نصب {والأرض بعد ذلك دحاها} ويجوز أن يكون عطفاً على {ماءها ومرعاها} ويكون المعنى: وأخرج منها جبالها، فتكون (ال) عوضاً عن المضاف إليه مثل {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] أي مأوى من خافَ مقام ربه فإن الجبال قطع من الأرض ناتئة على وجه الأرض. وإرساء الجبال: إِثباتُها في الأرض، ويقال: رست السفينة، إذا شُدّت إلى الشاطئ فوقفت على الأَنْجَرِ، ويوصف الجبل بالرسوّ حقيقة...
ومن معنى إرسائها: أنها جعلت منحدرة ليتمكن الناس من الصعود فيها بسهولة كما يتمكن الراكب من ركوب السفينة الراسية ولو كانت في داخل البحر ما تمكن الراكب من ركوبها إلا بمشقة...