95- وانتهي أمرهم وزالت آثارهم ، كأنهم لم يقيموا في ديارهم ، ونطق حالهم بما يجب أن يتنبه له ويعتبر به كل عاقل ، ألا هلاكاً لمدْين ، وبُعداً من رحمة الله كما بَعدت ثمود من قبلهم{[98]} .
خلت منهم الدور ، كأن لم يكن لهم فيها دور ، وكأن لم يعمروها حينا من الدهر . مضوا مثلهم مشيعين باللعنة ، طويت صفحتهم في الوجود وصفحتهم في القلوب :
( ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ، وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ، كأن لم يغنوا فيها . ألا بعدا لمدين ، كما بعدت ثمود . )
وطويت صفحة أخرى من الصفحات السود ، حق فيها الوعيد على من كذبوا بالوعيد .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَأَن لّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } .
يقول تعالى ذكره : كأن لم يعش قوم شعيب الذين أهلكهم الله بعذابه ، حين أصبحوا جاثمين في ديارهم ، قبل ذلك . و{ لم يغنوا } ، من قولهم : غنيت بمكان كذا : إذا أقمت به ، ومنه قول النابغة :
غَنِيَتْ بذلكَ إذْ هُمُ لي جِيرَةٌ *** مِنْها بعَطْفِ رِسالَةٍ وتَوَدّدِ
وكما حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها } ، قال : يقول : كأن لم يعيشوا فيها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .
وقوله : { ألا بُعْدا لِمَدْيَنَ كمَا بَعِدَتْ ثُمودُ } ، يقول تعالى ذكره : ألا أبعد الله مدين من رحمته بإحلال نقمته ، { كما بعدت ثمود } ، يقول : كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإنزال سخطه بهم .
{ كأن لم يغنوا فيها } كأن لم يقيموا فيها . { ألا بُعداً لمدين كما بعِدَت ثمود } شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة ، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم . وقرئ { بعُدت } بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك ، والبعد مصدر لهما والبعد مصدر المكسور .
وقوله تعالى : { كان لم يغنوا فيها } الآية ، الضمير في قوله : { فيها } عائد على «الديار » ، و { يغنوا } معناه : يقيمون بنعمة وخفض عيش ، ومنه المغاني وهي المنازل المعمورة بالأهل ، وقوله : { ألا } تنبيه للسامع ، وقوله : { بعداً } مصدر ، دعا به ، وهذا كما تقول : سقياً لك ورعياً لك وسحقاً للكافر ونحو هذا ، وفارقت هذه قولهم : سلام عليك ، لأن هذا كأنه إخبار عن شيء قد وجب وتحصل ، وتلك إنما هي دعاء مترجى : ومعنى «البعد » - في قراءة من قرأ «بعِدت » بكسر العين - الهلاك - وهي قراءة الجمهور ومنه قول خرنق بنت هفان : [ الكامل ]
لا يبعدنْ قومي الذين همُ*** سُمُّ العداةِ وآفة الجزرِ{[6487]}
ومنه قول مالك بن الريب : [ الطويل ]
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني*** وأين مكان البعد إلا مكانيا{[6488]}
وأما من قرأ «بعدت » وهو السلمي وأبو حيوة - فهو من البعد الذي ضده القرب ، ولا يدعى به إلا على مبغوض{[6489]} .
أما قوله : { كما بَعدت ثمود } فهو تشبيه البعد الذي هو انقراض مدين بانقراض ثمود . ووجه الشبه التّماثل في سبب عقابهم بالاستئصال ، وهو عذاب الصيحة ، ويجوز أن يكون المقصود من التّشبيه الاستطراد بذمّ ثمود لأنهم كانوا أشدّ جرأة في مناواة رسل الله ، فلمّا تهيأ المقام لاختتام الكلام في قصص الأمم البائدة ناسب أن يعاد ذكر أشدّها كفراً وعناداً فَشُبّهَ هلك مدين بهلكهم .
والاستطراد فَنّ من البديع . ومنه قول حسّان في الاستطراد بالهجاء بالحارث أخي أبي جهل :