فإذا تردى وسقط في نهاية العثرات والانحرافات لم يغن عنه ماله الذي بخل به ، والذي استغنى به كذلك عن الله وهداه . . ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) . . والتيسير للشر والمعصية من التيسير للعسرى ، وإن أفلح صاحبها في هذه الأرض ونجا . . وهل أعسر من جهنم ? وإنها لهي العسرى ! .
هكذا ينتهي المقطع الأول في السورة . وقد تبين طريقان ونهجان للجموع البشرية في كل زمان ومكان . وقد تبين أنهما حزبان ورايتان مهما تنوعت وتعددت الأشكال والألوان . وأن كل إنسان يفعل بنفسه ما يختار لها ! فييسر الله له طريقه : إما إلى اليسرى وإما إلى العسرى .
فأما المقطع الثاني فيتحدث عن مصير كل فريق . ويكشف عن نهاية المطاف لمن يسره لليسرى ، ومن يسره للعسرى . وقبل كل شيء يقرر أن ما يلاقيه كل فريق من عاقبة ومن جزاء هو عدل وحق ، كما أنه واقع وحتم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدّىَ * إِنّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىَ * وَإِنّ لَنَا لَلاَخِرَةَ وَالاُولَىَ * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظّىَ * لاَ يَصْلاَهَآ إِلاّ الأشْقَى * الّذِي كَذّبَ وَتَوَلّىَ * وَسَيُجَنّبُهَا الأتْقَى * الّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكّىَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَما يُغْني عَنْهُ مالُهُ : أيّ شيء يدفع عن هذا الذي بخل بماله ، واستغنى عن ربه ، مالُه يوم القيامة إذَا هو تَرَدّى ؟ .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : إذَا تَرَدّى فقال بعضهم : تأويله : إذا تردّى في جهنم : أي سقط فيها فَهَوى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا الأشجعيّ ، عن ابن أبي خالد ، عن أبي صالح وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إذَا تَرَدّى قال : في جهنم . قال أبو كُرَيب : قد سمع الأشجعيّ من إسماعيل ذلك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : إذَا تَرَدّى قال : إذا تردّى في النار .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا مات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إذَا تَرَدّى قال : إذا مات .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إذا تَرَدّى قال : إذا مات .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا الأشجعيّ ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : إذا مات .
وأَولَى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : إذا تردّى في جهنم ، لأن ذلك هو المعروف من التردّي فأما إذا أُريد معنى الموت ، فإنه يقال : رَدِيَ فلان ، وقلما يقال : تردّى .
ثم وقف تعالى على موضع غناء ماله عنه وقت ترديه ، وهذا يدل على أن الإعطاء والبخل المذكورين إنما هما ماله عنه وقت ترديه ، واختلف الناس في معنى { تردى } : فقال قتادة وأبو صالح معناه { تردى } في جهنم ، أي سقط من حافاتها ، وقال مجاهد : { تردى } معناه هلك من الردى ، وقال قوم معناه { تردى } بأكفانه من الرداء ، ومنه قول مالك بن الربيب : [ الطويل ]
وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي . . . وردّا على عينيّ فضل ردائيا{[11861]}
نصيبك مما تجمع الدهر كله . . . رداءان تلوى فيهما وحنوط{[11862]}
وجملة : { وما يغني عنه ماله إذا تردى } عطف على جملة { فسنيسره للعسرى } أي سنعجل به إلى جهنم . فالتقدير : إذا تردّى فيها .
والتردّي : السقوط من علوّ إلى سفل ، يعني : لا يغني عنه ماله الذي بخل به شيئاً من عذاب النار .
و { مَا } يجوز أن تكون نافية . والتقدير : وسَوْف لا يغني عنه ماله إذا سقط في جهنم ، وتحتمل أن تكون استفهامية وهو استفهام إنكار وتوبيخ . ويجوز على هذا الوجه أن تكون الواو للاستئناف . والمعنى : وما يغني عنه ماله الذي بخل به .
رَوى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس : « أنه كانت لرجل من المنافقين نخلة مائلة في دار رجل مسلم ذي عيال فإذا سقط منها ثمرٌ أكله صبيةٌ لذلك المسلم فكان صاحب النخلة ينزع من أيديهم الثمرة ، فشكا المسلم ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلم النبي صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة أن يتركها لهم وله بها نخلة في الجنة فلم يفعل ، وسمع ذلك أبو الدحداح الأنصاري{[450]} فاشترى تلك النخلة من صاحبها بحائط فيه أربعون نخلة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله اشترِها مني بنخلة في الجنة فقال : نعم والذي نفسي بيده ، فأعطاها الرجلَ صاحب الصبية " قال عكرمة قال ابن عباس : فأنزل الله تعالى : { والليل إذا يغشى } [ الليل : 1 ] إلى قوله : { للعسرى } وهو حديث غريب ، ومن أجل قول ابن عباس : فأنزل الله تعالى : { والليل إذا يغشى } قال جماعة : السورة مدنية وقد بينا في المقدمة الخامسة أنه كثيراً ما يقع في كلام المتقدمين قولهم : فأنزل الله في كذا قوله كذا ، أنهم يريدون به أن القصّة ممّا تشمله الآية . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كمْ من عَذْق رَدَاحْ في الجنة لأبي الدحداح " ولمح إليها بشار بن برد في قوله :
إن النُحيلة إذْ يميل بها الهوى *** كالعَذق مال على أبي الدحداح