{ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي هو المنفرد بالإحياء والإماتة ، فلا تموت نفس بسبب أو بغير سبب ، إلا بإذنه . { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
{ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا } جليلاً أو حقيرًا { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } لا رد في ذلك ، ولا مثنوية ، ولا تمنع .
قوله تعالى : { فإذا قضى أمراً } عبارة عن إنقاذ الإيجاد ، وإخراج المخلوق من العدم وإيجاد الموجودات هو بالقدرة ، واقتران الأمر بذلك : هو عظمة في الملك وتخضيع للمخلوقات وإظهار للقدرة بإيجاده ، والأمر للموجد إنما يكون في حين تلبس القدرة بإيجاده لا قبل ذلك ، لأنه حينئذ لا يخاطب في معنى الوجود والكون ولا بعد ذلك ، لأن ما هو كائن لا يقال له { كن } .
استئناف خامس ومناسبةُ موقعه من قوله : { هُوَ الذي خَلَقَكم من تُراب } إلى قوله : { ثُمَّ يُخْرِجُكم طِفْلاً } إلى { ومِنكم مَن يُتَوفَّى من قَبْلُ ولتبلغوا أجَلاً مُسَمى ولعلكم تعقِلُون } [ غافر : 67 ] فإن من أول ما يُرجَى أن يعقلوه هو ذلك التصرف البديع بخلق الحياة في الإِنسان عند تكوينه بعد أن كان جثة لا حياة فيها ، وخلق الموت فيه عند انتهاء أجله بعد أن كان حياً متصرفاً بقوته وتدبيره .
فمعنى { يحيي } يُوجِد المخلوق حيّا . ومعنى { يميت } أنه يُعدم الحياة عن الذي كان حيّاً ، وهذا هو محل العبرة . وأما إمكان الإِحياء بعد الإِماتة فمدلول بدلالة قياس التمثيل العقلي وليس هو صريح الآية . والمقصود الامتنان بالحياة تبعاً لقوله قبل هذا : { هُوَ الذي خَلَقَكم مِن تُراب } إلى قوله : { ثُمَّ يخرجكم طِفلاً } [ غافر : 67 ] .
وفي قوله : { يُحيِي ويُمِيت } المحسن البديعي المسمى الطِّباق . وفرع على هذا الخبر إخبار بأنه إذا أراد أمراً من أمور التكوين من إحياء أو إماتة أو غيرهما فإنه يقْدر على فعله دون تردّد ولا معالجة ، بل بمجرد تعلق قدرته بالمقدور وذلك التعَلق هو توجيه قدرته للإِيجاد أو الإعدام . فالفاء من قوله : { فَإذَا قَضَى } فاء تفريع الإِخبار بما بعدها على الإِخبار بما قبلها .
وقول : { كن } تمثيل لتعلق القدرة بالمقدور بلا تَأخير ولا عُدَّة ولا معاناة وعلاج بحال من يرد إذن غيره بعمل فلا يزيد على أن يوجه إليه أمراً فإن صدور القول عن القائل أسرع أعمال الإِنسان وأيسر ، وقد اختير لتقريب ذلك أخصر فعل وهو { كن } المركب من حرفين متحرك وساكن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هو} الله {الذي يحي} الموتى {ويميت} الأحياء.
{فإنما يقول له كن فيكون} فإنما يقول له كن فيكون مرة واحدة لا يثنى قوله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد:"هوَ الّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ" يقول قل لهم: ومن صفته جل ثناؤه أنه هو الذي يحيي من يشاء بعد مماته، ويميت من يشاء من الأحياء بعد حياته.
"فإذَا قَضَى أمْرا "يقول: وإذا قضى كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها "فإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ" يعني للذي يريد تكوينه كن، فيكون ما أراد تكوينه موجودا بغير معاناة، ولا كلفة مؤنة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو الذي يخلق حياة كل شيء، ويخلق موت كل شيء.
{فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فإنما يترجم بقوله: {كن} من غير أن كان منه كاف ونون. فذلك تكوينه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"هو الذى يحيى ويميت" يعني من خلقكم على هذه الأوصاف التي ذكرها هو الذى يحييكم وهو الذي يميتكم، فأولكم من تراب وآخركم إلى تراب تعودون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا} يكوّنه من غير كلفة ولا معاناة. جعل هذا نتيجة من قدرته على الإحياء والإماتة، وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أنّ مقدوراً لا يمتنع عليه، كأنه قال: فلذلك من الاقتدار إذا قضى أمراً كان أهون شيء وأسرعه.
اعلم أنه تعالى لما ذكر انتقال الإنسان من كونه ترابا إلى كونه نطفة ثم إلى كونه علقة ثم إلى كونه طفلا ثم إلى بلوغ الأشد ثم إلى الشيخوخة واستدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر قال بعده:
{هو الذي يحيي ويميت} يعني كما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى من الصفات التي تقدم ذكرها يدل على الإله القادر، فكذلك الانتقال من الحياة إلى الموت وبالعكس يدل على الإله القادر {فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} فيه وجوه:
الأول: معناه أنه لما نقل هذه الأجسام من بعض هذه الصفات إلى صفة أخرى لم يتعب في ذلك التصرف ولم يحتج إلى آلة وأداة، فعبر عن نفاذ قدرته في الكائنات والمحدثات من غير معارض ولا مدافع بما إذا قال: {كن فيكون}.
الوجه الثاني: أنه عبر عن الإحياء والإماتة بقول {كن فيكون} فكأنه قيل الانتقال من كونه ترابا إلى كونه نطفة، ثم إلى كونه علقة انتقالات تحصل على التدرج قليلا قليلا، وأما صيرورة الحياة فهي إنما تحصل لتعليق جوهر الروح النطقية به، وذلك يحدث دفعة واحدة، فلهذا السبب وقع التعبير عنه بقوله {كن فيكون}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نظم سبحانه هذا الدليل في صنع الآدمي من التراب، وختمه بأن دلالته على البعث -بإجراء سنته في إرجاع أواخر الأمور على أوائلها وغير ذلك- لا يحتاج إلى غير العقل، أنتج عنه قوله: {هو} لا غيره {الذي يحيي ويميت} كما تشاهدونه في أنفسكم وكما مضى لكم الإشارة إليه بخلق السماوات والأرض، فإن من خلقهما خلق ما بينهما من الآجال المضروبة باختلاف الليل والنهار والشهور والأعوام لبلوغ الأفلاك مواضعها، ثم رجوعها عوداً على بدء مثل تطوير الإنسان بعد الترابية من النطفة إلى العلقة إلى ما فوقها، ثم رجوعه في مدارك هبوطه إلى أن تصير تراباً كما كان، فليست النهاية بأبعد من البداية.
ولما كانت إرادته لا تكون إلا تامة نافذة، سبب عن ذلك قوله معبراً بالقضاء: {فإذا قضى أمراً} أي أراد أيّ أمر كان من القيامة أو غيرها {فإنما يقول له كن} ولما كانت {إذا} شرطية أجابها في قراءة ابن عامر بقوله: {فيكون} وعطفها في قراءة غيره على {كن} بالنظر إلى معناه، أو يكون خبراً لمبتدأ أي فهو يكون، وعبر بالمضارع تصويراً للحال وإعلاماً بالتجدد عند كل قضاء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يعقب عليها بعرض حقيقة الإحياء والإماتة. وحقيقة الخلق والإنشاء جميعاً: (هو الذي يحيي ويميت. فإذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن. فيكون).. وتكثر الإشارة في القرآن إلى آيتي الحياة والموت؛ لأنهما تلمسان قلب الإنسان بشدة وعمق. ثم لأنهما الظاهرتان البارزتان المكررتان في كل ما يقع عليه حس الإنسان. وللإحياء والإماتة مدلول أكبر مما يبدو لأول مرة. فالحياة ألوان. والموت ألوان. وإن رؤية الأرض الميتة. ثم رؤيتها تنبض بالحياة. ورؤية الشجرة الجافة الأوراق والأغصان في موسم، ثم رؤيتها والحياة تنبثق منها في كل موضع، وتخضر وتورق وتزهر، كما لو كانت الحياة تتفجر منها وتفيض. ورؤية البيضة.. ثم الفرخ. ورؤية البذرة ثم النبتة.. وعكس هذه الرحلة.. من الحياة إلى الموت، كالرحلة من الموت إلى الحياة.. كلها تلمس القلب وتستجيشه إلى قدر من التأثر والتدبر يختلف باختلاف النفوس والحالات. ومن الحياة والموت إلى حقيقة الإنشاء وأداة الإبداع. وإن هي إلا الإرادة يتمثل اتجاهها إلى الخلق. خلق أي شيء. في كلمة (كن).. فإذا الوجود ينبثق على إثرها (فيكون) فتبارك الله أحسن الخالقين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف خامس ومناسبةُ موقعه من قوله: {هُوَ الذي خَلَقَكم من تُراب} إلى قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكم طِفْلاً} إلى {ومِنكم مَن يُتَوفَّى من قَبْلُ ولتبلغوا أجَلاً مُسَمى ولعلكم تعقِلُون} فإن من أول ما يُرجَى أن يعقلوه هو ذلك التصرف البديع بخلق الحياة في الإِنسان عند تكوينه بعد أن كان جثة لا حياة فيها، وخلق الموت فيه عند انتهاء أجله بعد أن كان حياً متصرفاً بقوته وتدبيره.
فمعنى {يحيي} يُوجِد المخلوق حيّا. ومعنى {يميت} أنه يُعدم الحياة عن الذي كان حيّاً، وهذا هو محل العبرة. وأما إمكان الإِحياء بعد الإِماتة فمدلول بدلالة قياس التمثيل العقلي وليس هو صريح الآية.
والمقصود الامتنان بالحياة تبعاً لقوله قبل هذا: {هُوَ الذي خَلَقَكم مِن تُراب} إلى قوله: {ثُمَّ يخرجكم طِفلاً}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية الأخيرة في هذا البحث تتحدث عن أهم مظهر من مظاهر قدرة الله تبارك وتعالى متمثلة بقضية الحياة والموت، هاتان الظاهرتان اللتان لا تزالان بالرغم من تقدم العلم وتطوره في نطاق الأمور الغامضة والمجهولة في معرفة الإنسان وعلمه. قول تعالى: (هو الذي يحيي ويميت). إنّ الحياة والموت بالمعنى الواسع للكلمة بيد الله، سواء تعلق ذلك بالإنسان أو النبات أو أنواع الحيوان والموجودات الأُخرى التي تتجلى فيها الحياة بأشكال متنوعة. إنّ نماذج الحياة تعتبر أكثر النماذج تنوعاً في عالم الوجود وكل الكائنات تنتهي بأجل معين إلى الموت.
وبدون شك فإن أشكال الحياة هي أكثر أشكال الخلقة تنوعاً وأعجبها.
إنّ الانتقال من عالم إلى آخر؛ من الوجود المادي الى الحياة، ومن الحياة في هذه الدّنيا الى ما بعد الموت يستبطن أسراراً وعجائب بليغة تحكي عظمة الخالق ومدى قدرته في هذه الخليقة العجيبة المتنوعة وكل واحدة من هذه القضايا المعقدة والمتنوعة لا تعتبر مشكلة وعسيرة في متناول قدرة الخالق جلّ وعلا، حيث تتحقق بمجرّد إرادته. لذلك تقول الآية في نهايتها بياناً لهذه الحقيقة: (فإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون).
إنّ كلمة «كن» وبعدها «فيكون» هي من باب عدم قدرة الألفاظ على استيعاب حقيقة الإرادة والقدرة الإلهية، وإلاّ فليس ثمّة من حاجة إلى هذه الجملة؛ لأنّ إرادة الله هي نفسها حدوث الكائنات ووجودها بدون فصل...