قوله تعالى :{ ألم*غلبت الروم* في أدنى الأرض } .
سبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال ، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم ، لأن أهل فارس كانوا مجوساً أميين ، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس ، لكونهم أهل كتاب ، فبعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليها رجلاً يقال له شهرمان ، وبعث قيصر جيشاً عليهم رجل يدعى بخين ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ ذلك المسلمين بمكة ، فشق عليهم ، وفرح به كفار مكة ، وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار ، فقال : فرحتم بظهور إخوانكم ، فلا تفرحوا فوالله ليظهرن على فارس على ما أنبأنا بذلك نبينا ، فقام إليه أبي بن خلف الجمحي فقال : كذبت ، فقال : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه والمناحبة : المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت ، ففعلوا ، وجعلوا الأجل ثلاث سنين ، فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، وذلك قبل تحريم القمار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الخطر وماده في الأجل ، فخرج أبو بكر ولقي أبياً ، فقال : لعلك ندمت ؟ قال : لا ، فتعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين ، وقيل إلى سبع سنين ، قال قد فعلت . فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه ، وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً ، فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه ، فقال : لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلاً ، فأعطاه كفيلاً . ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بارزه ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم . وقيل : كان يوم بدر . قال الشعبي : لم تمض تلك المدة التي عقدوا المناحبة بين أهل مكة ، وفيها صاحب قمارهم أبي بن خلف ، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر ، وذلك قبل تحريم القمار ، حتى غلبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنو الرومية فقمر أبو بكر أبياً وأخذ مال الخطر من ورثته ، فجاء به يحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : تصدق به . وكان سبب غلبة الروم فارساً على ما قال عكرمة وغيره : أن شهرمان بعدما غلبت الروم لم يزل يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ، فبينا أخوه فرحان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كلمته كسرى ، فكتب إلى شهرمان : إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرحان ، فكتب إليه : أيها الملك إنك لن تجد مثل فرحان ، إن له نكاية وصولة في العدو ، فلا تفعل البتة ، فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفاً منه ، فعجل برأسه ، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه ، وبعث بريداً إلى أهل فارس إني قد نزعت عنكم شهرمان واستعملت عليكم فرحان الملك ، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة أمره فيها بقتل شهرمان ، وقال : إذا ولي فرحان الملك وانقاد له أخوه فأعطه ، فلما قرأ شهرمان الكتاب قال : سمعاً وطاعة ، ونزل عن سريره وجلس فرحان ورفع إليه الصحيفة ، فقال : ائتوني بشهرمان ، فقدمه ليضرب عنقه ، فقال : لا تعجل علي حتى أكتب وصيتي . قال : نعم ، فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت تريد أن تقتلني بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه ، وكتب شهرمان إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ، ولا تبلغها الصحف ، فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين رومياً ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا ، فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا ، ثم بسط لهما ، فالتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ومع كل واحد منهما سكين ، فدعوا بترجمان بينهما فقال شرهمان : إن الذين خرجوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي ، فأبيت ث'م أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا ، فنحن نقاتله معك قال قد أصبتما ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين ، فإذا جاوز اثنين فشا ، فقتلا الترجمان معا بسكينهما ، فأديلت الروم على فارس عند ذلك ، فاتبعوهم يقتلونهم ومات كسرى وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حديبية ففرح ومن معه ، فذلك قوله عز وجل ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض )أي أقرب أرض الشام إلى أرض فارس ، قال عكرمة هي أذرعات وكسكر ، وقال مجاهد أرض الجزيرة ، وقال مقاتل الأردن وفلسطين{ وهم من بعد غلبهم } أي : الروم من بعد غلبة فارس إياهم والغلب والغلبة لغتان{ سيغلبون }فارس .
كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول الأرض ، وكان يكون بينهما من الحروب والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة .
وكانت الفرس مشركين يعبدون النار ، وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة والإنجيل وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس ، وكان المشركون -لاشتراكهم والفرس في الشرك- يحبون ظهور الفرس على الروم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وذلك أن أهل فارس غلبوا على الروم {في أدنى الأرض} يعني أرض الأردن وفلسطين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"غُلِبَتِ الرّومِ فِي أدْنَى الأرْضِ" اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: غُلِبَتِ الرّومُ (بضمّ الغين)، بمعنى: أن فارس غَلَبت الروم. وروي عن ابن عمر وأبي سعيد في ذلك ما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن الحسن الجفريّ، عن سليط، قال: سمعت ابن عمر يقرأ «الم غَلَبَتِ الرّومُ» فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، على أيّ شيء غَلَبوا؟ قال: على ريف الشام.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره "الم غُلِبَتِ الرّومُ "-بضم الغين-، لإجماع الحجة من القرّاء عليه. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: غلبت فارس الروم "فِي أدْنَى الأرْضِ" من أرض الشام إلى أرض فارس.
"وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبهِمْ" يقول: والروم من بعد غلبة فارس إياهم "سَيَغْلِبُونَ" فارس "فِي بِضْعِ سنِينَ لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ" غلبتهم فارس "وَمِنْ بَعْدُ" غلبتهم إياها، يقضي في خلقه ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويظهر من شاء منهم على من أحبّ إظهاره عليه.
"وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ" يقول: ويوم يغلِب الروم فارس يفرح المؤمنون بالله ورسوله بنصر الله إياهم على المشركين، ونُصْرة الروم على فارس.
"يَنْصُرُ اللّهُ" تعالى ذكره "مَنْ يَشاءُ" من خلقه، على من يشاء، وهو نُصرة المؤمنين على المشركين ببدر، "وَهُوَ العَزِيزُ" يقول: والله الشديد في انتقامه من أعدائه، لا يمنعه من ذلك مانع، ولا يحول بينه وبينه حائل "الرّحِيمُ" بمن تاب من خلقه، وراجع طاعته أن يعذّبه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكر أهل التأويل أنه إنما يذكر هذا لأن المشركين كانوا يجادلون المسلمين، وهم بمكة؛ يقولون: إن الروم أهل الكتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيكم، فستغلبكم كما غلبت فارس الروم. فأنزل الله هذه الآيات: {الم} {غلبت الروم} {في أدنى الأرض} الآية.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قوله {غُلِبَتِ الرُّومُ}: سُرَّ المسلمون بظفر الروم على العجم -وإن كان الكفر يجمعهم- إلا أن الروم اختصوا بالإيمان ببعض الأنبياء، فشكر الله لهم، وأنزل فيهم الآية.. فكيف بمن يكون سروره لدين الله، وحُزنُه واهتمامه لدين الله؟...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
أثبت سبحانه أن له جميع الأمر وأنه يسرُّ المؤمنين بنصرة من له دين صحيح الأصل، وخذلان أهل العراقة في الباطل والجهل، وجعل ذلك على وجه يفيد نصر المؤمنين على المشركين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين...
وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية.
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان. ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال، والأمم لم تكن وثيقة الارتباط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر. مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم؛ وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان؛ وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان.
وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا؛ ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. منذ حوالي أربعة عشر قرنا. ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان.
وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة، وحقيقة القضية؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة، مهما تنوعت العلل والأسباب.
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله، كما تبدو في قولة أبي بكر -رضي الله عنه- في غير تلعثم ولا تردد، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه؛ فما يزيد على أن يقول: صدق. ويراهنونه فيراهن وهو واثق. ثم يتحقق وعد الله، في الأجل الذي حدده: (في بضع سنين).. وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله. وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل.
والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر، من قول الله سبحانه: (لله الأمر من قبل ومن بعد).. والمسارعة برد الأمر كله لله. في هذا الحادث وفي سواه. وتقرير هذه الحقيقة الكلية، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف. فالنصر والهزيمة، وظهور الدول ودثورها، وضعفها وقوتها. شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال، مرده كله إلى الله، يصرفه كيف شاء، وفق حكمته ووفق مراده. وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة، التي ليس لأحد عليها من سلطان؛ ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة؛ ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله. و إذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم.
(ألم. غلبت الروم في أدنى الأرض. وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)..
(ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)..
ولقد صدق وعد الله، وفرح المؤمنون بنصر الله.
(ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم)..
فالأمر له من قبل ومن بعد. وهو ينصر من يشاء. لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة.
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال. فهي ترد الأمر كله إلى الله. ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ودخل يصلي قائلا: توكلت على الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اعقلها وتوكل". فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله.
(ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم)..
فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع؛ وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس؛ وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
خبر مستعمل في لازم فائدته على طريق الكناية، أي نحن نعلم بأن الروم غُلبت، فلا يَهْنِكْم ذلك ولا تطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنّا نعلم أنهم سيَغلبون مَنْ غلبوهم بعد بضع سنين بحيث لا يعد الغلب في مثله غلَباً...