النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{غُلِبَتِ ٱلرُّومُ} (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : { غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ } الآية .

روى ابن جبير عن ابن عباس قال : كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان .

قال ابن شهاب : فغلبت فارس الروم فسر بذلك المشركون وقالوا للمسلمين إنكم تزعمون أنكم ستغلبوننا لأنكم أهل كتاب ، وقد غلبت فارس الروم والروم أهل كتاب .

وقيل : إنه كان آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فساءه فأنزل الله هاتين{[2160]} الآيتين فلما قال :

{ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيْغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } سر بذلك المسلمون وبادر أبو بكر رضي الله عنه إلى مشركي قريش فأخبرهم بما أنزل عليهم وأن الروم ستغلب فارس . قال قتادة : فاقتمر أبو بكر والمشركون على ذلك ، وذلك قبل تحريم القمار ، مدة اختلف الناس فيها على ثلاثة أقاويل :

أحدها : مدة ثلاث سنين تظهر الروم فيها على فارس ، قاله السدي .

الثاني : خمس سنين ، قاله قتادة .

الثالث : سبع سنين ، قاله الفراء .

وكان الذي تولى ذلك من المسلمين أبو بكر رضي الله عنه ، واختلف في الذي تولاه من المشركين مع أبي بكر على قولين :

أحدهما : أنه أبو سفيان ابن حرب ، قاله السدي .

الثاني : أنه أُبي بن خلف ، قاله قتادة . وحكى النقاش أن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم عَلِق به أبي بن خلف وقال : اعطني كفيلاً بالخطر{[2161]} إن غلبت فكفله ابنه عبد الرحمن .

واختلف في قدر العوض المبذول على قولين :

أحدهما : أربع قلائص ، قاله عامر .

الثاني : خمس قلائص ، قاله قتادة .

فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر لهم هذه المدة أنكرها وقال : " مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا فَعَلْتَ ؟ " قال : ثقة بالله وبرسوله ، قال : " فَكَم البِضْعُ " قال : ما بلغ بين الثلاث والعشر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " زِدْهُم فِي الخَطَرِ فِي وَزِدْ الأَجَلِ " فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين فصارت القلائص ستاً على القول الأول وسبعاً على الثاني وصار الأجل خمساً على القول الأول ، وسبعاً على الثاني ، وتسعاً على الثالث{[2162]} .

واختلف في الاستزادة والزيادة على قولين :

أحدهما : أنها كانت بعد انقضاء الأجل الأول قبل ظهور الغلبة ، قاله عامر .

الثاني : أنها كانت قبل انقضاء الأجل الأول ، قاله ابن شهاب . فأظفر الله الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقاً لخبره في التقدير ولرسوله صلى الله عليه وسلم في التنزيل .

واختلف في السنة التي غلبت فيها الروم أهل فارس على ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنها عام بدر ظهر الروم على فارس فيه وظهر المسلمون على قريش فيه ، قاله أبو سعيد . قال : فكان في يوم بدر .

الثاني : أن ظهور فارس على الروم كان قبل الهجرة بسنتين ، وظهور المسلمين على قريش كان في عام بدر بعد الهجرة بسنتين ، ولعله قول عكرمة .

الثالث : عام الحديبية ظهرت الروم على فارس وكان ظهور المسلمين على المشركين في الفتح بعد مدة الحديبية ، قاله عبيد الله بن عبد الله .

فأما قوله تعالى : { فِي أَدْنَى الأَرْضِ } ففيه قولان :

أحدهما : في أدنى أرض فارس ، حكاه النقاش .

الثاني : في أدنى أرض الروم ، وهو قول الجمهور وفي أدنى أرض الروم أربعة أقاويل :

أحدها : أطراف الشام ، قاله ابن عباس .

الثاني : الجزيرة{[2163]} وهي أقرب أرض الروم إلى فارس ، قاله مجاهد .

الثالث : الأردن وفلسطين ، قاله السدي .

الرابع : أذرعات{[2164]} الشام وكانت بها الوقعة قاله يحيى بن سلام .

وقرأ أبو عمرو وحده : { غَلَبَتِ } ، بالفتح أي ظهرت فقيل له علام غلبت فقال : في أدنى ريف الشام .

قوله تعالى : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } وهو ما بين الثلاث إلى العشر{[2165]} وهذا نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال بعض أهل اللغة هو ما بين العقدين من الواحد إلى العشرة فيكون من الثاني إلى التاسع .

وأما النيف ففيه قولان :

أحدهما : ما بين الواحد والتسعة ، قاله ابن زيد .

الثاني : ما بين الواحد والثلاثة ، وهو قول الجمهور .

{ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } فيه وجهان :

أحدهما : من قبل أن تغلب الروم ومن بعد ما غلبت .

الثاني : من قبل غلبة دولة فارس على الروم ومن بعد غلبة دولة الروم على فارس .

{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } فيه قولان :

أحدهما : أنه الخبر الذي ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بهلاك كسرى ففرح ومن معه فكان هذا يوم فرحهم بنصر الله لضعف الفرس وقوة العرب .

الثاني : يعني به نصر الروم على فارس .

وفي فرحهم بذلك ثلاثة أوجه :

أحدها : تصديق خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم .

الثاني : لأنهم أهل كتاب مثلهم .

الثالث : لأنه مقدمة لنصرهم على المشركين .


[2160]:روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت "ألم. غلبت الروم. في أدنى الأرض- إلى قوله يفرح المؤمنون بنصر الله" قال ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس. وهو حديث حسن غريب.
[2161]:الخطر: الرهن وما يخاطر عليه.
[2162]:ويروى أنه لما كسب أبو بكر الرهن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: تصدق به، فتصدق به. وقد روى الترمذي حديث الرهان رقم 3192 تفسير.
[2163]:الجزيرة: أرض بين العراق والشام.
[2164]:قال ابن عطية فإن كانت الواقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله: تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرت أدنى دارها نظر عال
[2165]:رواه الترمذي رقم 3191.