لما أوحى الله إلى موسى ، ونبأه ، وأراه الآيات الباهرات ، أرسله إلى فرعون ، ملك مصر ، فقال : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } أي : تمرد وزاد على الحد في الكفر والفساد والعلو في الأرض ، والقهر للضعفاء ، حتى إنه ادعى الربوبية والألوهية -قبحه الله- أي : وطغيانه سبب لهلاكه ، ولكن من رحمة الله وحكمته وعدله ، أنه لا يعذب أحدا ، إلا بعد قيام الحجة بالرسل ، فحينئذ علم موسى عليه السلام أنه تحمل حملا عظيما ، حيث أرسل إلى هذا الجبار العنيد ، الذي ليس له منازع في مصر من الخلق ، وموسى عليه السلام ، وحده ، وقد جرى منه ما جرى من القتل ، فامتثل أمر ربه ، وتلقاه بالانشراح والقبول ، وسأله المعونة وتيسير الأسباب ، التي [ هي ]{[515]} من تمام الدعوة ، فقال : { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي }
وقوله { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } أي : اذهب إلى فرعون ملك مصر ، الذي خَرَجت فارًا منه وهاربًا ، فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ومره فَلْيُحْسِن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم ، فإنه قد طغى وبَغَى ، وآثر الحياة الدنيا ، ونسي الرب الأعلى .
قال وهب بن مُنَبِّه : قال الله لموسى : انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي ، وإني{[19247]} معك أيدي ونَصْري ، وإني قد ألبستك جُنَّةً من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جندي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ، بطر نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا عني ، حتى جحد حقي ، وأنكر ربوبيتي ، وزعم أنه لا يعرفني ، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي ، لبطشت به بطشة جبار ، يغضب لغضبه السموات والأرض ، والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته ، وإن أمرت البحار غرقته ، ولكنه هان عليّ ، وسقط من عيني ، ووسعه حلمي ، واستغنيت بما عندي ، وحقي إني أنا الغنيّ لا غنيّ غيري ، فبلغه رسالتي ، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي ، وذكره أيامي{[19248]} وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي ، وقل له فيما بين ذلك قولا لينًا لعله يتذكر أو يخشى ، وخَبّره{[19249]} أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ، ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني ، وقل له : أجب ربك فإنه واسع المغفرة ، وقد أمهلك أربعمائة سنة ، في كلها أنت مبارزه بالمحاربة ، تسبه وتتمثل به وتصدّ عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء ، وينبت لك الأرض ، [ و ]{[19250]} لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر [ ولم تغلب ]{[19251]} ولو شاء الله أن يعَجِّل لك العقوبة لفعل ، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم . وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده{[19252]} فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة - ولا قليل مني - تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا تعجبنكما{[19253]} زينته ، ولا ما مَتّع به ، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما ، فإنها زهر{[19254]} الحياة الدنيا ، وزينة المترفين . ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ، ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما ، فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك ، وأزويه عنكما . وكذلك أفعل بأوليائي ، وقديمًا ما جرت عادتي في ذلك . فإني لأذودُهم عن نعيمها ورخائها ، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة ، وما ذاك لهوانهم عليّ ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرًا لم تكْلَمْه الدنيا .
واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ مما{[19255]} عندي من الزهد في الدنيا ، فإنها زينة المتقين ، عليهم منها لباس يُعْرَفون به من السكينة والخشوع ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أولئك أوليائي حقًّا حقًّا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك ، وذلل قلبك ولسانك ، واعلم أنه من أهان لي وليًا أو أخافه ، فقد بارزني بالمحاربة ، وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ، أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني ، أم{[19256]} يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني . وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ، لا أَكِلُ مضطرهم{[19257]} إلى غيري .
لما أظهر الله لهُ الآيتين فعلم بذلك أنه مؤيّد من الله تعالى ، أمره الله بالأمر العظيم الذي من شأنه أن يُدخل الرّوع في نفس المأمور به وهو مواجهة أعظم ملوك الأرض يومئذ بالموعظة ومكاشفته بفساد حاله ، وقد جاء في الآيات الآتية : { قالا ربّنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } [ طه : 45 ، 46 ] .
والذهاب المأمور به ذهاب خاص ، قد فهمه موسى من مقدمات الإخبار باختياره ، وإظهار المعجزات له ، أو صرح له به وطوي ذكره هنا على طريقة الإيجاز ، على أنّ التّعليل الواقع بعده ينبىء به .
فجملة { إنه طَغَى } تعليل للأمر بالذهاب إليه ، وإنما صلحت للتعليل لأن المراد ذهاب خاص ، وهو إبلاغ ما أمر الله بإبلاغه إليه من تغييره عما هو عليه من عبادة غير الله . ولما علم موسى ذلك لم يبادر بالمراجعة في الخوف من ظلم فرعون ، بل تلقى الأمر وسأل الله الإعانة عليه ، بما يؤول إلى رباطة جأشه وخلق الأسباب التي تعينه على تبليغه ، وإعطائه فصاحة القول للإسراع بالإقناع بالحجة .
وحكي جواب موسى عن كلام الرب بفعل القول غير معطوف جرياً على طريقة المحاورات .
ورتّب موسى الأشياء المسؤولة في كلامه على حسب ترتيبها في الواقع على الأصل في ترتيب الكلام ما لم يكن مقتض للعدل عنه .