تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ} (24)

وقوله { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } أي : اذهب إلى فرعون ملك مصر ، الذي خَرَجت فارًا منه وهاربًا ، فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ومره فَلْيُحْسِن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم ، فإنه قد طغى وبَغَى ، وآثر الحياة الدنيا ، ونسي الرب الأعلى .

قال وهب بن مُنَبِّه : قال الله لموسى : انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي ، وإني{[19247]} معك أيدي ونَصْري ، وإني قد ألبستك جُنَّةً من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جندي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ، بطر نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا عني ، حتى جحد حقي ، وأنكر ربوبيتي ، وزعم أنه لا يعرفني ، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي ، لبطشت به بطشة جبار ، يغضب لغضبه السموات والأرض ، والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته ، وإن أمرت البحار غرقته ، ولكنه هان عليّ ، وسقط من عيني ، ووسعه حلمي ، واستغنيت بما عندي ، وحقي إني أنا الغنيّ لا غنيّ غيري ، فبلغه رسالتي ، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي ، وذكره أيامي{[19248]} وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي ، وقل له فيما بين ذلك قولا لينًا لعله يتذكر أو يخشى ، وخَبّره{[19249]} أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ، ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني ، وقل له : أجب ربك فإنه واسع المغفرة ، وقد أمهلك أربعمائة سنة ، في كلها أنت مبارزه بالمحاربة ، تسبه وتتمثل به وتصدّ عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء ، وينبت لك الأرض ، [ و ]{[19250]} لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر [ ولم تغلب ]{[19251]} ولو شاء الله أن يعَجِّل لك العقوبة لفعل ، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم . وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده{[19252]} فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة - ولا قليل مني - تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا تعجبنكما{[19253]} زينته ، ولا ما مَتّع به ، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما ، فإنها زهر{[19254]} الحياة الدنيا ، وزينة المترفين . ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ، ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما ، فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك ، وأزويه عنكما . وكذلك أفعل بأوليائي ، وقديمًا ما جرت عادتي في ذلك . فإني لأذودُهم عن نعيمها ورخائها ، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة ، وما ذاك لهوانهم عليّ ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرًا لم تكْلَمْه الدنيا .

واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ مما{[19255]} عندي من الزهد في الدنيا ، فإنها زينة المتقين ، عليهم منها لباس يُعْرَفون به من السكينة والخشوع ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أولئك أوليائي حقًّا حقًّا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك ، وذلل قلبك ولسانك ، واعلم أنه من أهان لي وليًا أو أخافه ، فقد بارزني بالمحاربة ، وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ، أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني ، أم{[19256]} يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني . وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ، لا أَكِلُ مضطرهم{[19257]} إلى غيري .

رواه ابن أبي حاتم .


[19247]:في ف: "وإن".
[19248]:في أ: "وذكره. آياتي".
[19249]:في ف: "وأخبره".
[19250]:زيادة من ف.
[19251]:زيادة من أ.
[19252]:في أ: "وإنما يحتسب أن يجاهده".
[19253]:في ف، أ: "يعجبكما".
[19254]:في ف، أ: "زهرة".
[19255]:في ف، أ "فيما".
[19256]:في أ: "أو".
[19257]:في ف، أ: "نصرتهم".