{ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد } قرأ الكسائي ويعقوب " لا يعذب ، ولا يوثق " بفتح الذال والثاء على معنى لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ ، ولا يوثق كوثاقه يومئذ . قيل : هو رجل بعينه ، هو أمية بن خلف ، يعني لا يعذب كعذاب هذا الكافر أحد ، ولا يوثق كوثاقه أحد . وقرأ الآخرون بكسر الذال والثاء ، أي : لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ ، ولا يوثق كوثاقه أحد ، يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب ، والوثاق : هو الإسار في السلاسل والأغلال .
ثم يصور مصيره بعد الحسرة الفاجعة والتمنيات الضائعة : " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد " . . إنه الله القهار الجبار . الذي يعذب يومئذ عذابه الفذ الذي لا يملك مثله أحد .
والذي يوثق وثاقه الفذ الذي لا يوثق مثله أحد . وعذاب الله ووثاقه يفصلهما القرآن في مواضع أخرى في مشاهد القيامة الكثيرة المنوعة في ثنايا القرآن كله ، ويجملهما هنا حيث يصفهما بالتفرد بلا شبيه من عذاب البشر ووثاقهم . أو من عذاب الخلق جميعا ووثاقهم . وذلك مقابل ما أسلف في السورة من طغيان الطغاة ممثلين في عاد وثمود وفرعون ، وإكثارهم من الفساد في الأرض ، مما يتضمن تعذيب الناس وربطهم بالقيود والأغلال . فها هو ذا ربك - أيها النبي وأيها المؤمن - يعذب ويوثق من كانوا يعذبون الناس ويوثقونهم . ولكن شتان بين عذاب وعذاب ، ووثاق ووثاق . . وهان ما يملكه الخلق من هذا الأمر ، وجل ما يفعله صاحب الخلق والأمر . فليكن عذاب الطغاة للناس ووثاقهم ما يكون . فسيعذبون هم ويوثقون ، عذابا ووثاقا وراء التصورات والظنون !
و «يوثِق » بكسر الذال الثاء ، وعلى هذه القراءة ، فالضمير عائد في عذابه ووثاقه لله تعالى ، والمصدر مضاف إلى الفاعل ولذلك معنيان : أحدهما أن الله تعالى لا يكل عذاب الكفار يومئذ إلى أحد ، والآخر أن عذابه من الشدة في حيز لم يعذب قط أحد بمثله في الدنيا{[11814]} ، ويحتمل أن يكون الضمير للكافر والمصدر مضاف إلى المفعول ، وقرأ الكسائي وابن سيرين وابن أبي إسحاق وسواد القاضي{[11815]} «يعذَّب » و «يوثَق » بفتح الذال والثاء ، ورويت كثيراً عن النبي صلى الله عليه وسلم{[11816]} ، فالضميران على هذا للكافر الذي هو بمنزلة جنسه كله والمصدر مضاف إلى المفعول ووضع عذاب موضع تعذيب كما قال : [ القرطبي ] : [ الوافر ]
وبعض عطائك المائة الرتاعا{[11817]} . . . ويحتمل أن يكون الضميران في هذه القراءة لله تعالى ، كأنه قال : لا يعذب أحد قط في الدنيا عذاب الله للكفار ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، وفي هذا التأويل تحامل ، وقرأ الخليل بن أحمد{[11818]} «وِثاقه » بكسر الواو .
وقرأ الجمهور { يعذِّب } بكسر الذال { ويوثق } بكسر الثاء على أن { أحدٌ } في الموضعين فاعل { يعذِب ، ويوثِق } . وأن عذابه من إضافة المصدر إلى مفعوله فضمير { عذابه } عائد إلى الإنسان في قوله : { يتذكر الإنسان } وهو مفعول مطلق مبيّن للنوع على معنى التشبيه البليغ ، أي عذاباً مثل عذابه ، وانتفاء المماثلة في الشدة ، أي يعذب عذاباً هو أشد عذاب يعذبه العصاة ، أي عذاباً لا نظير له في أصناف عذاب المعذّبين على معنى قوله تعالى : { فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } [ المائدة : 115 ] والمراد في شدته .
وهذا بالنسبة لبني الإنسان ، وأما عذاب الشياطين فهو أشدُّ لأنهم أشد كفراً و { أحد } يستعمل في النفي لاستغراق جنس الإنسان فأحَدٌ في سياق النفي يعمّ كل أحد قال تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ للَّه } [ الانفطار : 19 ] فانحصر الأحد المعذِّب ( بكسر الذال ) في فرد وهو الله تعالى .
وقرأه الكسائي ويعقوب بفتح ذال { يعذَّب } وفتح ثاء { يوثق } مبنيين للنائب . وعن أبي قلابة قال : « حدثني من أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ { يعذَّب } و { يوثَق } بفتح الذال وفتح الثاء » . قال الطبري : وإسناده واهٍ وأقول أغنى عن تصحيح إسناده تواترُ القراءة به في بعض الروايات العشر وكلها متواتر .
والمعنى : لا يعذَّب أحدٌ مثلَ عذاب مَا يعذَّب به ذلك الإنسان المتحسر يومئذ ، ولا يوثَق أحدٌ مثلَ وَثاقه ، ف { أحد } هنا بمنزلة « أحداً » في قوله تعالى : { فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } [ المائدة : 115 ] .
والوَثاق بفتح الواو اسم مصدر أوثق وهو الربْط ويجعل للأسير والمقُود إلى القتل . فيجعل لأهل النار وثاق يساقون به إلى النار قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم } [ غافر : 71 ، 72 ] الآية .
وانتصاب { وثاقه } كانتصاب { عذابه } على المفعولية المطلقة لمعنى التشبيه .