التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ} (26)

والوثاق : اسم مصدر أوثق .

وقرأ الجمهور { يعذِّب } بكسر الذال { ويوثق } بكسر الثاء على أن { أحدٌ } في الموضعين فاعل { يعذِب ، ويوثِق } . وأن عذابه من إضافة المصدر إلى مفعوله فضمير { عذابه } عائد إلى الإنسان في قوله : { يتذكر الإنسان } وهو مفعول مطلق مبيّن للنوع على معنى التشبيه البليغ ، أي عذاباً مثل عذابه ، وانتفاء المماثلة في الشدة ، أي يعذب عذاباً هو أشد عذاب يعذبه العصاة ، أي عذاباً لا نظير له في أصناف عذاب المعذّبين على معنى قوله تعالى : { فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } [ المائدة : 115 ] والمراد في شدته .

وهذا بالنسبة لبني الإنسان ، وأما عذاب الشياطين فهو أشدُّ لأنهم أشد كفراً و { أحد } يستعمل في النفي لاستغراق جنس الإنسان فأحَدٌ في سياق النفي يعمّ كل أحد قال تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ للَّه } [ الانفطار : 19 ] فانحصر الأحد المعذِّب ( بكسر الذال ) في فرد وهو الله تعالى .

وقرأه الكسائي ويعقوب بفتح ذال { يعذَّب } وفتح ثاء { يوثق } مبنيين للنائب . وعن أبي قلابة قال : « حدثني من أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ { يعذَّب } و { يوثَق } بفتح الذال وفتح الثاء » . قال الطبري : وإسناده واهٍ وأقول أغنى عن تصحيح إسناده تواترُ القراءة به في بعض الروايات العشر وكلها متواتر .

والمعنى : لا يعذَّب أحدٌ مثلَ عذاب مَا يعذَّب به ذلك الإنسان المتحسر يومئذ ، ولا يوثَق أحدٌ مثلَ وَثاقه ، ف { أحد } هنا بمنزلة « أحداً » في قوله تعالى : { فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } [ المائدة : 115 ] .

والوَثاق بفتح الواو اسم مصدر أوثق وهو الربْط ويجعل للأسير والمقُود إلى القتل . فيجعل لأهل النار وثاق يساقون به إلى النار قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم } [ غافر : 71 ، 72 ] الآية .

وانتصاب { وثاقه } كانتصاب { عذابه } على المفعولية المطلقة لمعنى التشبيه .