قوله تعالى : { قالوا } مجيبين لها : { نحن أولو قوة } في القتال ، { وأولو بأس شديد } عند الحرب ، قال مقاتل : أرادوا بالقوة كثرة العدد ، وبالبأس الشديد الشجاعة ، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك ، ثم قالوا : { والأمر إليك } أيتها الملكة في القتال وتركه ، { فانظري } من الرأي ، { ماذا تأمرين } تجدينا لأمرك مطيعين .
{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : إن رددت عليه قوله ولم تدخلي في طاعته فإنا أقوياء على القتال ، فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي الذي لو تم لكان فيه دمارهم ، ولكنهم أيضا لم يستقروا عليه بل قالوا : { وَالأمْرُ إِلَيْكَ } أي : الرأي ما رأيت لعلمهم بعقلها وحزمها ونصحها لهم { فَانْظُرِي } نظر فكر وتدبر { مَاذَا تَأْمُرِينَ } .
{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : مَنوا إليها بعَدَدهم وعددهم وقوتهم ، ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا : { وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } أي : نحن ليس لنا عاقة [ ولا بنا بأس ، إن شئت أن تقصديه وتحاربيه ، فما لنا عاقة ]{[22032]} عنه . وبعد هذا فالأمر{[22033]} إليك ، مري فينا برأيك{[22034]} نمتثله ونطيعه .
قال الحسن البصري ، رحمه الله : فوضوا أمرهم إلى عِلْجة تضطرب ثدياها ، فلما قالوا لها ما قالوا ، كانت هي أحزم رأيًا منهم ، وأعلم بأمر سليمان ، وأنه{[22035]} لا قبل لها بجنوده وجيوشه ، وما سُخّر له من الجن والإنس والطير ، وقد شاهَدَت من قضية الكتاب مع الهدهد أمرًا عجيبًا بديعًا ، فقالت لهم : إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه ، فيقصدنا بجنوده ، ويهلكنا بمن معه ، ويخلص إليّ وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا ؛ ولهذا قالت : { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } .
وقوله : قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوّةٍ وأُولُو بأْسٍ شَدِيدٍ يقول تعالى ذكره : قال الملأ من قوم مَلِكة سبأ ، إذ شاورتهم في أمرها وأمر سليمان : نحن ذوو القوّة على القتال ، والبأس الشديد في الحرب ، والأمر أيتها الملكة إليك في القتال وفي تركه ، فانظري من الرأي ما ترين ، فَمُرِينا نأتمرْ لأمرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوّةٍ وأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ عرضوا لها القتال ، يقاتلون لها ، والأمر إليك بعد هذا ، فانْظُرِي ماذَا تَأْمُرِينَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : كان مع ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيول ، مع كلّ قيول مئة ألف .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان مع بلقيس مئة ألف قَيْل ، مع كل قَيْل مئة ألف .
قال : ثنا وكيع ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعت مجاهدا يقول : كانت تحت يد ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيول والقيول بلسانهم : الملك تحت يد كلّ مَلِكٍ مئة ألف مقاتل .
فراجعها الملأ بما يقر عينها من إعلامهم إياها ب «القوة والبأس » أي وذلك مبذول إليك فقاتلي إن شئت ، ثم سلموا الأمر إلى نظرها وهذه محاورة حسنة من الجميع ، وفي قراءة عبد الله «ما كنت قاضية أمراً » بالضاد من القضاء ، وذكر مجاهد في عدد أجنادها أنها كان لها اثنا عشر ألفاً ، قيل تحت يد كل واحد منهم مائة ألف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، وذكر غيره نحوه فاختصرته لبعد الصحة عنه .
جواب بأسلوب المحاورة فلذلك فُصل ولم يعطف كما هي طريقة المحاورات . أرادوا من قولهم : نحن ، جماعة المملكة الذين هم من أهل الحرب . فهو من إخيار عرفاء القوم عن حال جماعاتهم ومن يفوض أمرهم إليهم . والقوة : حقيقتها ومجازها تقدم عند قوله تعالى : { فخذها بقوة } في سورة الأعراف ( 145 ) . وأطلقت على وسائل القوة كما تقدم في قوله تعالى : { وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة } في سورة الأنفال ( 60 ) ، أي وسائل القدرة على القتال والغلبة ، ومن القوة كثرة القادرين على القتال والعارفين بأساليبه .
والبأسُ : الشدة على العدوّ ، قال تعالى : { والصابرين في البأساء والضراء وحينَ البأس } [ البقرة : 177 ] أي في مواقع القتال ، وقال : { بأسهم بينهم شديد } [ الحشر : 14 ] ، وهذا الجواب تصريح بأنهم مستعدون للحرب للدفاع عن ملكهم وتعريض بأنهم يميلون إلى الدفع بالقوة إن أراد أن يكرههم على الدخول تحت طاعته لأنهم حملوا ما تضمنه كتابه على ما قد يفضي إلى هذا .
ومع إظهار هذا الرأي فوّضوا الأمر إلى الملكة لثقتهم بأصالة رأيها لتنظر ما تأمرهم فيمتثلونه ، فحذف مفعول { تأمرين } ومتعلقه لظهورهما من المقام ، والتقدير : ما تأمريننا به ، أي إن كان رأيك غير الحرب فمُري به نُطعك .
وفعل { انظري } معلق عن العمل بما بعده من الاستفهام وهو { ماذا تأمرين } .
وتقدم الكلام على { ماذا } في قوله : { وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم } في سورة النحل ( 24 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا} لها: {نحن أولوا قوة} يعنى عدة كثيرة في الرجال...
{وأولوا بأس شديد} في الحرب، يعني: الشجاعة.
{والأمر إليك} يقول: قد أخبرناك بما عندنا وما نجاوز ما تقولين. {فانظري ماذا تأمرين}، يعني: ماذا تشيرين علينا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوّةٍ وأُولُو بأْسٍ شَدِيدٍ" يقول تعالى ذكره: قال الملأ من قوم مَلِكة سبأ، إذ شاورتهم في أمرها وأمر سليمان: نحن ذوو القوّة على القتال، والبأس الشديد في الحرب، "والأمر "أيتها الملكة "إليكِ" في القتال وفي تركه، "فانظري" من الرأي ما ترين، فَمُرِينا نأتمرْ لأمرك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد} أي نحن أولو قوة في أنفسنا وأولو بأس أي حرب وقتال شديد، أي لنا معرفة في ذلك. ومع ما قالوا ذلك وكلوا الأمر إليها حين قالوا {والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين}. وهكذا الواجب على وزراء الملوك والرعية أنهم إذا استشاروهم في أمر أن يدلوهم على الأصوب والأحسن إليهم، ثم يكلوا الأمر إليهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أرادوا بالقوة: قوّة الأجساد وقوّة الآلات والعدد. وبالبأس: النجدة والبلاء في الحرب {والأمر إِلَيْكِ} أي هو موكول إليك، ونحن مطيعون لك، فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك كأنهم أشاروا عليها بالقتال. أو أرادوا: نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأي والمشورة، وأنت ذات الرأي والتدبير، فانظري ماذا ترين: نتبع رأيك.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
فراجعها الملأ بما أقر عينها من قولهم: إنهم {أولوا}، أي قوة بالعدد والعدد، {وأولوا بأس شديد}: أي أصحاب شجاعة ونجدة... {والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين}، وذلك من حسن محاورتهم، إذ وكلوا الأمر إليها، وهو دليل على الطاعة المفرطة، أي نحن ذكرنا ما نحن عليه، ومع ذلك فالأمر موكول إليك، كأنهم أشاروا أولاً عليها بالحرب، أو أرادوا: نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة، وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جواب بأسلوب المحاورة فلذلك فُصل ولم يعطف كما هي طريقة المحاورات. أرادوا من قولهم: نحن، جماعة المملكة الذين هم من أهل الحرب. فهم من أخيار عرفاء القوم عن حال جماعاتهم ومن يفوض أمرهم إليهم. والقوة: حقيقتها ومجازها تقدم عند قوله تعالى: {فخذها بقوة} في سورة الأعراف (145). وأطلقت على وسائل القوة كما تقدم في قوله تعالى: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة} في سورة الأنفال (60)، أي وسائل القدرة على القتال والغلبة، ومن القوة كثرة القادرين على القتال والعارفين بأساليبه.
والبأسُ: الشدة على العدوّ، قال تعالى: {والصابرين في البأساء والضراء وحينَ البأس} [البقرة: 177] أي في مواقع القتال، وقال: {بأسهم بينهم شديد} [الحشر: 14]. وهذا الجواب تصريح بأنهم مستعدون للحرب للدفاع عن ملكهم وتعريض بأنهم يميلون إلى الدفع بالقوة إن أراد أن يكرههم على الدخول تحت طاعته لأنهم حملوا ما تضمنه كتابه على ما قد يفضي إلى هذا.
ومع إظهار هذا الرأي فوّضوا الأمر إلى الملكة لثقتهم بأصالة رأيها لتنظر ما تأمرهم فيمتثلونه، فحذف مفعول {تأمرين} ومتعلقه لظهورهما من المقام، والتقدير: ما تأمريننا به، أي إن كان رأيك غير الحرب فمُري به نُطعك.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أجابوها بما يقوي عزمها ويشد أزرها ويطمئن حكمها كشأن حاشية الملوك، ومدبري الأمر معهم قالوا: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} أجابوا بثلاثة أمور مطمئنة ملقية في نفسها روح الاطمئنان على حكمها وسلطانها. أول هذه الأمور الثلاثة {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ}، أي أصحاب قوة في استعدادنا من حيث العدد والذخيرة، وكل ما يحتاج إليه الجند القوى المستعد، وثاني هذه الأمور أنهم {أولوا بأس}، أي أهل همة ونجدة وشجاعة لا نفرط في الدفاع أو الجهاد إذا دعا داعيه، وإن بأسنا شديد، لا نتخاذل في حرب. الأمر الثالث: ان القيادة كلها (الأمر إليها)، ولذا قالوا: {والأمر إليك}، أي نحن نتعاون طائعون فالأمر إليك، {فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}.