وقوله : فَرَاغَ إلى أهْلِهِ يقول : عدل إلى أهله ورجع . وكان الفرّاء يقول : الروغ وإن كان على هذا المعنى فإنه لا ينطق به حتى يكون صاحبه مخفيا ذهابه أو مجيئه ، وقال : ألا ترى أنك تقول قد راغ أهل مكة وأنت تريد رجعوا أو صدروا ، فلو أخفى راجع رجوعه حسنت فيه راغ ويروغ .
وقوله : فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ يقول : فجاء ضيفَه بعجل سمين قد أنضجه شيّا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَرَاغَ إلى أهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ قال : كان عامة مال نبيّ الله إبراهيم عليه السلام البقر .
و{ راغ } مال في المشي إلى جانب ، ومنه : رَوغان الثعْلب . والمعنى : أن إبراهيم حاد عن المكان الذي نزل فيه الضُيوف إلى أهله ، أي إلى بيته الذي فيه أهله .
وفي التوراة : أنه كان جالساً أمامَ باب خيمته تحت شجرة وأنه أنزل الضيوف تحت الشجرة . وقال أبو عبيد القَاسم بن سلام : إن الروغان ميل في المشي عن الاستواء إلى الجانب مع إخفاء إرادته ذلك وتبعه على هذا التقييد الراغب والزمخشري وابن عطيّة فانتزع منه الزمخشري أن إخفاء إبراهيم ميله إلى أهله من حسن الضيافة كيلا يوهم الضيف أنه يريد أن يحضر لهم شيئاً فلعلّ الضيف أن يكُفّه عن ذلك ويعذره وهذا منزع لطيف .
وكان منزل إبراهيم الذي جرت عنده هذه القصة بموضع يسمّى ( بلوطات مَمْرا ) من أرض جبرون .
ووصُف العجل هنا ب { سَمين } ، ووصف في سورة هود بحنيذ ، أي مشوي فهو عجل سمين شواه وقرّبه إليهم ، وكان الشِوا أسرع طبخ أهل البادية وقام امرؤ القيس يذكر الصيد :
فظل طهاةُ اللحم ما بين مُنضِج *** صَفيف شِواء أو قَدِيرٍ مُعَجَّل
فقيد ( قدير ) ب ( مُعَجّل ) ولم يقيد ( صفيف شواء ) لأنه معلوم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فراغ} يعني فمال {إلى أهله فجاء} إليهم {بعجل سمين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَرَاغَ إلى أهْلِهِ "يقول: عدل إلى أهله ورجع. وكان الفرّاء يقول: الروغ وإن كان على هذا المعنى فإنه لا ينطق به حتى يكون صاحبه مخفيا ذهابه أو مجيئه...
وقوله: "فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ" يقول: فجاء ضيفَه بعجل سمين قد أنضجه شيّا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
راغ، أي مال إلى أهله على خفاء من أضيافه وسرٍّ منهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فجاء بعجل سمين " فالعجل واحد البقر الصغير مأخوذ من تعجيل أمره بقرب ميلاده.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الروغان: الذهاب بسرعة، وقيل: في خفية...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَرَاغَ إلى أهله} فذهب إليهم في خفية من ضيوفه؛ ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادره بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يكفه ويعذره...
{فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون} بفاء التعقيب فدل على أن تقريب الطعام منهم بعد حصول الإنكار لهم...
ولنعد إلى بيان ما أتى به من آداب الإضافة وما أتوا به من آداب الضيافة، فالإكرام أولا ممن جاءه ضيف قبل أن يجتمع به ويسلم أحدهما على الآخر أنواع من الإكرام وهي اللقاء الحسن والخروج إليه والتهيؤ له، ثم السلام من الضيف على الوجه الحسن الذي دل عليه النصب في قوله: {سلاما} إما لكونه مؤكدا بالمصدر أو لكونه مبلغا ممن هو أعظم منه. ثم الرد الحسن الذي دل عليه الرفع والإمساك عن الكلام لا يكون فيه وفاء، إن إبراهيم عليه السلام لم يقل سلام عليكم بل قال أمري مسالمة... ثم تعجيل القرى الذي دل عليه قوله تعالى: {فما لبث أن جاء} وقوله هاهنا: {فراغ} فإن الروغان يدل على السرعة والروغ الذي بمعنى النظر الخفي أو الرواح المخفي أيضا كذلك. ثم الإخفاء فإن المضيف إذا أحضر شيئا ينبغي أن يخفيه عن الضيف كي لا يمنعه من الإحضار بنفسه حيث راغ هو ولم يقل هاتوا، وغيبة المضيف لحظة من الضيف مستحسن ليستريح ويأتي بدفع ما يحتاج إليه ويمنعه الحياء منه ثم اختيار الأجود بقوله: {سمين}. ثم تقديم الطعام إليهم لا نقلهم إلى الطعام بقوله: {فقربه إليهم} لأن من قدم الطعام إلى قوم يكون كل واحد مستقرا في مقره لا يختلف عليه المكان فإن نقلهم إلى مكان الطعام ربما يحصل هناك اختلاف جلوس فيقرب الأدنى ويضيق على الأعلى. ثم العرض لا الأمر حيث قال: {ألا تأكلون} ولم يقل كلوا ثم كون المضيف مسرورا بأكلهم غير مسرور بتركهم الطعام كما يوجد في بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاما كثيرا ويكون نظره ونظر أهل بيته في الطعام متى يمسك الضيف يده عنه، يدل عليه. قوله تعالى: {فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} ثم أدب الضيف أنه إذا أكل حفظ حق المؤاكلة، يدل عليه أنه خافهم حيث لم يأكلوا. ثم وجوب إظهار العذر عند الإمساك يدل عليه قوله: {لا تخف}. ثم تحسين العبارة في العذر وذلك لأن من يكون ممسكا وأحضر لديه الطعام فهناك أمران:
(أحدهما) أن الطعام لا يصلح له لكونه مضرا به.
(الثاني) كونه ضعيف القوة عن هضم ذلك الطعام؛ فينبغي أن لا يقول الضيف هذا طعام غليظ لا يصلح لي؛ بل الحسن أن يأتي بالعبارة الأخرى ويقول: لي مانع من أكل الطعام، وفي بيتي لا آكل أيضا شيئا، يدل عليه قوله: {وبشروه بغلام} حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ولم يقولوا لا يصلح لنا الطعام والشراب. ثم أدب آخر في البشارة أن لا يخبر الإنسان بما يسره دفعة فإنه يورث مرضا يدل عليه أنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم عليه السلام ثم قالوا نبشرك ثم ذكروا أشرف النوعين وهو الذكر ولم يقتنعوا به حتى وصفوه بأحسن الأوصاف فإن الابن يكون دون البنت إذا كانت البنت كاملة الخلقة حسنة الخلق والابن بالضد، ثم إنهم تركوا سائر الأوصاف من الحسن والجمال والقوة والسلامة واختاروا العلم إشارة إلى أن العلم رأس الأوصاف ورئيس النعوت. وقد ذكرنا فائدة تقديم البشارة على الإخبار عن إهلاكهم قوم لوط، ليعلم أن الله تعالى يهلكهم إلى خلف، ويأتي ببدلهم خيرا منهم.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ففي هذا الثناء على إبراهيم صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة:...
السادس: أنه راغ إلى أهله ليحييهم بنُزُلهم. و«الروغان»: هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به. وهذا من كرم رب المنزل المضيف: أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي. فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه وهو يقول له، أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه.
السابع: انه ذهب إلى أهله، فجاء بالضيافة. فدل على أن ذلك كان معدا عندهم مهيئا للضيفان. ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه، أو غيرهم فيشتريه، أو يستقرضه.
الثامن: قوله تعالى: {فجاء بعجل سمين} يدل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: «فأمر لهم»، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه، ولم يبعثه مع خادمه. وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
التاسع: أنه جاء بعجل كامل، ولم يأت ببضعة منه. وهذا من تمام كرمه صلى الله عليه وسلم.
العاشر: أنه سمين لا هزيل. ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.