{ 73 - 74 } { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ }
ذكر الله تعالى في هذه الآيات الكريمات ، كل سبب موجب للإيمان ، وذكر الموانع ، وبين فسادها ، واحدا بعد واحد ، فذكر من الموانع أن قلوبهم في غمرة ، وأنهم لم يدبروا القول ، وأنهم اقتدوا بآبائهم ، وأنهم قالوا : برسولهم جنة ، كما تقدم الكلام عليها ، وذكر من الأمور الموجبة لإيمانهم ، تدبر القرآن ، وتلقي نعمة الله بالقبول ، ومعرفة حال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وكمال صدقه وأمانته ، وأنه لا يسألهم عليه أجرا ، وإنما سعيه لنفعهم ومصلحتهم ، وأن الذي يدعوهم إليه صراط مستقيم ، سهل على العاملين لاستقامته ، موصل إلى المقصود ، من قرب حنيفية سمحة ، حنيفية في التوحيد ، سمحة في العمل ، فدعوتك إياهم إلى الصراط المستقيم ، موجب لمن يريد الحق أن يتبعك ، لأنه مما تشهد العقول والفطر بحسنه ، وموافقته للمصالح ، فأين يذهبون إن لم يتابعوك ؟ فإنهم ليس عندهم ما يغنيهم ويكفيهم عن متابعتك ،
وقوله : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جُدْعَان ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه - فيما يرى النائم - ملكان ، فقعد أحدهما عند رجليه ، والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مَثَل هذا ومثل أمته . فقال : إن مَثَلَه ومثل أمته ، كمثل قوم سُفْر انتهوا إلى رأس مَفَازة ، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به ، فبينا{[20614]} هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة ، فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة ، وحياضا رواء تتبعوني ؟ فقالوا : نعم . قال : فانطلق ، فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال ، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ قالوا{[20615]} : بلى ، قال : فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه ، وحياضا هي أروى من هذه ، فاتبعوني . قال : فقالت طائفة : صدق والله ، لنتبعه . وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه{[20616]} .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا زهير ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري ، حدثنا حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني ممسك بحجزكم : هَلُمَّ عن النار ، هلم عن النار ، وتغلبوني وتقاحمون فيها تَقَاحُم الفراش والجنادب ، فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فَرَطكم على الحوض ، فتردون علي معا وأشتاتا ، أعرفكم بسيماكم وأسمائكم ، كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله ، فيُذْهَب بكم ذات اليمين وذات الشمال ، فأناشد فيكم رب العالمين : أي رب ، قومي ، أي رب أمتي .
فيقال : يا محمد ، إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم ، فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، ينادي : يا محمد ، يا محمد . فأقول : لا أملك لك شيئا . قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رُغَاء ، ينادي : يا محمد ، يا محمد . فأقول : لا أملك{[20617]} شيئا ، قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة ، فينادي : يا محمد ، يا محمد ، فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ، ينادي : يا محمد ، يا محمد : فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت " {[20618]} .
وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن الإسناد ، إلا أن حفص بن حميد مجهول ، لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي .
قلت : بل قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحاق ، وقال فيه يحيى بن معين : صالح . ووثقه النسائي وابن حبان .
أعقب تنزيه الرسول عما افتروه عليه بتنزيه الإسلام عما وسموه به من الأباطيل والتنزيه بإثبات ضد ذلك وهو أنه صراط مستقيم ، أي طريق لا التواء فيه ولا عقبات ، فالكلام تعريض بالذين اعتقدوا خلاف ذلك . وإطلاق الصراط المستقيم عليه من حيث إنه موصل إلى ما يتطلبه كل عاقل من النجاة وحصول الخير ، فكما أن السائر إلى طلبته لا يبلغها إلا بطريق ، ولا يكون بلوغه مضموناً ميسوراً إلا إذا كان الطريق مستقيماً فالنبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام دعاهم إلى السير في طريق موصل بلا عناء .
والتأكيد ب ( إن ) واللام باعتبار أنه مسوق للتعريض بالمنكرين على ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم