{ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } أي : جنون ، فلهذا قال ما قال ، والمجنون غير مسموع منه ، ولا عبرة بكلامه ، لأنه يهذي بالباطل والكلام السخيف .
قال الله في الرد عليهم في هذه المقالة : { بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ } أي : بالأمر الثابت ، الذي هو صدق وعدل ، لا اختلاف فيه ولا تناقض ، فكيف يكون من جاء به ، به جنة ؟ ! وهلا يكون إلا في أعلى درج الكمال ، من العلم والعقل ومكارم الأخلاق ، وأيضا فإن في هذا الانتقال مما تقدم ، أي : بل الحقيقة التي منعتهم من الإيمان أنه جاءهم بالحق { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } وأعظم الحق الذي جاءهم به إخلاص العبادة لله وحده ، وترك ما يعبد من دون الله ، وقد علم كراهتهم لهذا الأمر وتعجبهم منه ، فكون الرسول أتى بالحق ، وكونهم كارهين للحق بالأصل ، هو الذي أوجب لهم التكذيب بالحق لا شكا ولا تكذيبا للرسول ، كما قال تعالى : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } فإن قيل : لم لم يكن الحق موافقا لأهوائهم لأجل أن يؤمنوا و يسرعوا الانقياد ؟ أجاب تعالى بقوله : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } ووجه ذلك أن أهواءهم متعلقة بالظلم والكفر والفساد من الأخلاق والأعمال ، فلو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ، لفساد التصرف والتدبير المبني على الظلم وعدم العدل ، فالسماوات والأرض ما استقامتا إلا بالحق والعدل { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بذكرهم } أي : بهذا القرآن المذكر لهم بكل خير ، الذي به فخرهم وشرفهم ، حين يقومون به ، ويكونون به سادة الناس .
وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقوَّل{[20603]} القرآن ، أي : افتراه من عنده ، أو أن به جنونا لا يدري ما يقول . وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به ، وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن ، فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يُطاق ولا يُدافع ، وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله ، فما استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين ؛ ولهذا قال : { بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } يحتمل أن تكون هذه جملة حالية ، أي : في حال كراهة{[20604]} أكثرهم للحق ، ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة ، والله أعلم .
وقال قتادة : ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له : " أسلم " فقال الرجل : إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره . فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " وإن كنت كارها " . وذُكِر لنا أنه لقي رجلا فقال له : " أسلم " فَتَصَعَّده{[20605]} ذلك وكبر عليه ، فقال له نبي الله : " أرأيت لو كنتَ في طريق وَعْر وَعْث ، فلقيت رجلا تعرف وجهه ، وتعرف نسبه ، فدعاك إلى طريق واسع سهل ، أكنت متبعه{[20606]} ؟ " قال : نعم . فقال : " فوالذي{[20607]} نفس محمد بيده ، إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه ، وإني لأدعوك إلى أسهل من ذلك لو دعيت إليه " . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له : " أسلم " فَتَصَعَّدَه ذلك ، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت فتييك ، أحدهما إذا حدثك صدقك ، وإذا{[20608]} ائتمنته أدى إليك أهو أحب إليك ، أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا{[20609]} ائتمنته خانك ؟ " . قال : بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني ، وإذا ائتمنته أدى إلي . فقال النبي{[20610]} صلى الله عليه وسلم : " كذاكم أنتم عند ربكم " .
أمْ يَقُولُونَ بِهِ جنّةٌ يقول : أيقولون بمحمد جنون ، فهو يتكلم بما لا معنى له ولا يُفهم ولا يَدْرِي ما يقول : بَلْ جاءَهُمْ بالحَقّ يقول تعالى ذكره : فإن يقولوا ذلك فكَذِبُهم في قيلهم ذلك واضح بيّن وذلك أن المجنون يَهذِي فيأتي من الكلام بما لا معنى له ، ولا يعقل ولا يفهم ، والذي جاءهم به محمد هو الحكمة التي لا أحكم منها والحقّ الذي لا تخفى صحته على ذي فطرة صحيحة ، فكيف يجوز أن يقال : هو كلام مجنون ؟ وقوله : وأكْثَرُهُمْ للْحَقّ كارِهُونَ يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء الكفرة أنهم لم يعرفوا محمدا بالصدق ولا أن محمدا عندهم مجنون ، بل قد علموه صادقا محقّا فيما يقول وفيما يدعوهم إليه ، ولكن أكثرهم للإذعان للحقّ كارهون ولأتباع محمد ساخطون ، حسدا منهم له وبغيا عليه واستكبارا في الأرض .
ولما كان البشر قد يعرض له ما يسلب خصاله وهو اختلال عقله عطف على { أم لم يعرفوا رسولهم } قوله { أم يقولون به جنة } ، وهو الاستفهام الرابع ، أي ألعلهم ادعوا أن رسولهم الذي يعرفونه قد أصيب بجنون فانقلب صدقه كذباً .
الجِنّة : الجنون ، وهو الخلل العقلي الذي يصيب الإنسان ، كانوا يعتقدون أنه من مس الجن .
والجِنّة يطلق على الجنِّ وهو المخلوقات المستترة عن أبصارنا كما في قوله : { من الجِنّة والناس } [ الناس : 6 ] . ويطلق الجِنة على الداء اللاحق من إصابة الجن وصاحبه مجنون ، وهو المراد هنا بدليل باء الملابسة . وتقدم عند قوله تعالى { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } في سورة الأعراف ( 184 ) . وهم لم يظنوا به الجنون ولكنهم كانوا يقولونه بألسنتهم بهتاناً . وليس القول بألسنتهم هو مصب الاستفهام . ثم قد نُقض ما تسبب على ما اختلقوه فجيء بحرف الإضراب في الخبر في معنى الاستدراك وهو ( بل ) .
والحق : الثابت في الواقع ونفس الأمر ، يكون في الذوات وأوصافها . وفي الأجناس ، وفي المعاني ، وفي الأخبار . فهو ضد الكذب وضد السحر وضد الشعر ، فما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي كله ملابس للحق ، فبطل بهذا ما قالوه في القرآن وفي الرسول عليه الصلاة والسلام مقالة من لم يتدبروا القرآن ومن لم يراعوا إلا موافقة ما كان عليه آباؤهم الأولون ومن لم يعرفوا حال رسولهم الذي هو من أنفسهم ومقالة من يرمي بالبهتان فنسبوا الصادق إلى التلبيس والتغليط .
فالحق الذي جاءهم به النبي أوله إثبات الوحدانية لله تعالى وإثبات البعث وما يتبع ذلك من الشرائع النازلة بمكة ، كالأمر بالصلاة والزكاة وصلة الرحم ، والاعتراف للفاضل بفضله . وزجر الخبيث عن خبثه ، وأخوة المسلمين ، بعضهم لبعض ، والمساواة بينهم في الحق . ومنع الفواحش من الزنى وقتل الأنفس ووأْد البنات والاعتداء وأكل الأموال بالباطل وإهانة اليتيم والمسكين . ونحو ذلك من إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من العدوان . والخلافة التي نشأوا عليها من عهد قديم . فكل ما جاء به الرسول يومئذ هو الموافق لمقتضى نظام العمران الذي خلق الله عليه العالم فهو الحق كما قال { ما خلقناهما إلا بالحق } [ الدخان : 39 ] . ولما كان قول الكاذب وقول المجنون المختص بهذا الذي لا يشاركهما فيه العقلاء والصادقون غير جاريين على هذا الحق كان إثبات أن ما جاء به الرسول حقٌّ نقضاً لإنكارهم صدقه . ولقولهم هو مجنون كان ما بعد ( بل ) نقضاً لقولهم .
وظاهر تناسق الضمائر يقتضي أن ضمير { أكثرهم } يعود إلى القوم المتحدث عنهم في قوله { فذرهم في غمرتهم } [ المؤمنون : 54 ] فيكون المعنى : أكثر المشركين من قريش كارهون للحق . وهذا تسجيل عليهم بأن طباعهم تأنف الحق الذي يخالف هواهم لما تخلقوا به من الشرك وإتيان الفواحش والظلم والكبر والغصب وأفانين الفساد ، بله ما هم عليه من فساد الاعتقاد بالإشراك وما يتبعه من الأعمال كما قال تعالى : { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } [ المؤمنون : 63 ] ، فلا جرم كانوا بذلك يكرهون الحق لأن جنس الحق يجافي هذه الطباع . ومن هؤلاء أبو جهل قال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } إلى قوله : { ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا } [ الأنعام : 52 ، 53 ] .
وإنما أسندت كراهية الحق إلى أكثرهم دون جميعهم إنصافاً لمن كان منهم من أهل الأحلام الراجحة الذين علموا بطلان الشرك وكانوا يجنحون إلى الحق ولكنهم يشايعون طغاة قومهم مصانعة لهم واستبقاء على حرمة أنفسهم بعلمهم أنهم إن صدعوا بالحق لقوا من طغاتهم الأذى والانتقاص ، وكان من هؤلاء أبو طالب والعباس والوليد بن المغيرة . فكان المعنى : بل جاءهم بالحق فكفروا به كلهم ، فأما أكثرهم فكراهية للحق ، وأما قليل منهم مصانعة لسائرهم وقد شمل الكفر جميعهم .
وتقدم المعمول في قوله { للحق كارهون } اهتمام بذكر الحق حتى يستوعي السامع ما بعده فيقع من نفسه حسن سماعه موقع العجب من كارهيه ، ولما ضعف العامل فيه بالتأخير قرن المعمول بلام التقوية .