{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ } الذي عهده إليهم والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة ، فالوفاء بها توفيتها حقها من التتميم لها ، والنصح فيها { و } من تمام الوفاء بها أنهم { لَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } أي : العهد الذي عاهدوا عليه الله ، فدخل في ذلك جميع المواثيق والعهود والأيمان والنذور ، التي يعقدها العباد . فلا يكون العبد من أولي الألباب الذين لهم الثواب العظيم ، إلا بأدائها كاملة ، وعدم نقضها وبخسها .
وهذه صفات أولي الألباب هؤلاء :
( الذين يوفون بعهد الله ، ولا ينقضون الميثاق ) . .
وعهد الله مطلق يشمل كل عهد ، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق . والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان ؛ والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان .
وعهدالإيمان قديم وجديد . قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله ؛ المدركة إدراكا مباشرا لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود ، ووحدة الخالق صاحب الإرادة ، وأنه وحده المعبود . وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير . . ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه ، ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه ، مع العمل الصالح والسلوك القويم ، والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم . .
ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر . سواء مع الرسول أو مع الناس . ذوي قرابة أو أجانب . أفرادا أم جماعات . فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود ، لأن رعايتها فريضة ؛ والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس ، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق .
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله . يقررها في كلمات .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ }
يقول تعالى ذكره : إنما يتعظ ويعتبر بآيات الله أولو الألباب الذين يوفون بوصية الله التي أوصاهم . ولا ينقضُونَ الميثاقَ ولا يخالفون العهد الذي عاهدوا الله عليه إلى خلافه ، فيعملوا بغير ما أمرهم به ويخالفوا إلى ما نهى عنه . وقد بيّنا معنى العهد والميثاق فيما مضى بشواهده ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : إنّمَا يَتَذَكّرُ أُولُوا الألْبابِ فبين من هم ، فقال : الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ فعليكم بوفاء العهد ، ولا تنقضوا هذا الميثاق ، فإن الله تعالى قد نهى وقدّم فيه أشدّ التقدمة ، فذكره في بضع وعشرين موضعا ، نصيحة لكم وتقدمة إليكم وحُجّة عليكم ، وإنما يعظم الأمر بما عظّمه الله به عند أهل الفهم والعقل ، فعظّموا ما عظم الله قال قتادة : وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : «لا إيمَانَ لِمَنْ لا أمانَةَ لَهُ ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ » .
ثم أخذ تعالى في وصف هؤلاء الذين يسرهم للإيمان فقال : { الذين يوفون بعهد الله } وقوله : { بعهد الله } : اسم للجنس ، أي بجميع عهود الله وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيدة ، ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي .
وقوله : { ولا ينقضون الميثاق } يحتمل أن يريد به جنس المواثيق أي إذا اعتقدوا في طاعة الله عهداً لم ينقضوه . قال قتادة : وتقدم الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية ويحتمل أن يشير إلى ميثاق معين ، وهو الذي أخذه الله على عباده وقت مسحه على ظهر أبيهم آدم عليه السلام .
يجوز أن تكون { الّذين يؤمنون } ابتداء كلام فهو استئناف ابتدائي جاء لمناسبة ما أفادت الجملة التي قبلها من إنكار الاستواء بين فريقين . ولذلك ذكر في هذه الجمل حال فريقين في المحامد والمساوي ليظهر أن نفي التسوية بينهما في الجملة السابقة ذلك النفي المرادَ به تفضيل أحد الفريقين على الآخر هو نفي مُؤيد بالحجة ، وبذلك يصير موقع هذه الجملة مفيداً تعليلاً لنفي التسوية المقصود منه تفضيل المؤمنين على المشركين ، فيكون قوله : { الذين يوفون } مسنداً إليه وكذلك ما عطف عليه . وجُملة { أولئك لهم عقبى الدار } مسنداً .
واجتلاب اسم الإشارة { أولئك لهم عقبى الدار } للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من أجْل الأوصاف التي قبل اسم الإشارة ، كقوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } في أول سورة البقرة ( 5 ) .
ونظير هذه الجملة قوله تعالى : { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شرّ مكاناً وأضل سبيلا } [ سورة الفرقان : 34 ] من قوله : { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } [ سورة الفرقان : 33 ] .
وقد ظهر بهذه الجملة كلها وبموقعها تفضيل الذين يعلمون أن ما أنزل حق بما لهم من صفات الكمال الموجبة للفضل في الدنيا وحسن المصير في الآخرة وبما لأضدادهم من ضد ذلك في قوله : { والذين ينقضون عهد الله } إلى قوله : { ولهم سوء الدار } [ سورة الرعد : 25 ] .
والوفاء بالعهد : أن يحقّق المرء ما عاهد على أن يعمله . ومعنى العهد : الوعد الموثّق بإظهار العزم على تحقيقه من يمين أو تأكيد .
ويجوز أن يكون { الذين يوفون بعهد الله } نعتاً لقوله : { أولوا الألباب } وتكون جملة { أولئك لهم عقبى الدار } نعتاً ثانياً . والإتيان باسم الإشارة للغرض المذكور آنفاً .
وعهد الله مصدر مضاف لمفعوله ، أي ما عاهدوا الله على فعله ، أو من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي ما عهد الله به إليهم . وعلى كلا الوَجهين فالمراد به الإيمان الذي أخذه الله على الخلق المشار إليه بقوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ، وتقدم في سورة الأعراف ( 172 ) ، فذلك عهدهم ربهم . وأيضاً بقوله : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني } [ سورة يس : 60 61 ] ، وذلك عهد الله لهم بأن يعبدوه ولا يعبدوا غيره ، فحصل العهد باعتبار إضافته إلى مفعوله وإلى فاعله .
وذلك أمر أودعه الله في فطرة البشر فنشأ عليه أصلهم وتقلّده ذريته ، واستمر اعترافهم لله بأنه خالقهم .
وذلك من آثار عهد الله . وطرأ عليهم بعد ذلك تحريف عهدهم فأخذوا يتناسون وتشتبه الأمور على بعضهم فطرأ عليهم الإشراك لتفريطهم النظر في دلائل التوحيد ، ولأنه بذلك العهد قد أودع الله في فطرة العقول السليمة دلائل الوحدانية لمن تأمل وأسلم للدليل ، ولكن المشركين أعرضوا وكابروا ذلك العهد القائم في الفطرة ، فلا جرم أن كان الإشراك إبطالاً للعهد ونقضاً له ، ولذلك عطفت جملة ولا ينقضون الميثاق } على جملة { يوفون بعهد الله } .
والتعريف في { الميثاق } يحمل على تعريف الجنس فيستغرق جميع المواثيق وبذلك يكون أعم من عهد الله فيشمل المواثيق الحاصلة بين الناس من عهود وأيمان .
وباعتبار هذا العموم حصلت مغايرة ما بينه وبين عهد الله . وتلك هي مسوغة عطف { ولا ينقضون الميثاق } على { يوفون بعهد اللَّه } مع حصول التأكيد لمعنى الأولى بنفي ضدها ، وتعريضاً بالمشركين لاتصافهم بضد ذلك الكمال ، فعطفُ التأكيد باعتبار المغايرة بالعموم والخصوص .
والميثاق والعهد مترادفان . والإيفاء ونفي النقض متحداً المعنى . وابتدىء من الصفات بهذه الخصلة لأنها تنبىء عن الإيمان والإيمان أصل الخيرات وطريقها ، ولذلك عطف على { يوفون بعهد الله } قوله : { ولا ينقضون الميثاق } تحذيراً من كل ما فيه نقضه .
وهذه الصلات صفات لأولي الألباب فعطفها من باب عطف الصفات للموصوف الواحد ، وليس من عطف الأصناف . وذلك مِثل العطف في قول الشاعر الذي أنشده الفراء في معاني القرآن :
إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
فالمعنى : الذين يتصفون بمضمون كل صلة من هذه الصلات كلما عرض مقتض لاتّصافهم بها بحيث إذا وجد المقتضي ولم يتصفوا بمقتضاه كانوا غير متصفين بتلك الفضائل ، فمنها ما يستلزم الاتصاف بالضد ، ومنها ما لا يسْتلزم إلا التفريط في الفضل .
وأعيد اسم الموصول هذا وما عطف عليه من الأسماء الموصولة ، للدلالة على أنها صلاتها خصال عظيمة تقتضي الاهتمام بذكر من اتصف بها ، ولدفع توهم أن عقبى الدار لا تتحقق لهم إلا إذا جمعوا كل هذه الصفات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعت الله أهل اللب، فقال: {الذين يوفون بعهد الله} في التوحيد، {ولا ينقضون الميثاق} الذي أخذ الله عليهم على عهد آدم، عليه السلام...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إنما يتعظ ويعتبر بآيات الله أولو الألباب الذين يوفون بوصية الله التي أوصاهم. "ولا ينقضُونَ الميثاقَ": ولا يخالفون العهد الذي عاهدوا الله عليه إلى خلافه، فيعملوا بغير ما أمرهم به ويخالفوا إلى ما نهى عنه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم بين من هم فقال: (الذين يوفون بعهد الله) يحتمل [عهد الله]... عهد خلقه (يوفون) ما في خلقهم؛ إذ في خلقة كل أحد دلالة وحدانية وشهادة ألوهية، فوفوا ذلك العهد. ويحتمل عهد الله ما جرى على ألسن الرسل... وسمي العهد ميثاقا لأنه يوثق المرء، ويمنعه عن الاشتغال بغيره، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الايفاء: جعل الشيء على المقدار من غير زيادة ولا نقصان، والعهد: العقد المتقدم على الأمر بما يفعل والنهي عما يجتنب... والنقض: حل العقد بفعل ما ينافيه... والعهد الذي جعله في عقول العباد ما جعل فيها من اقتضاء صحة أمور الدين وفساد أمور أخر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... وعهد الله: ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172].
{وَلاَ ينقُضُونَ الميثاق} ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه: من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد، تعميم بعد تخصيص.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بعهد الله}: اسم للجنس، أي بجميع عهود الله وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيدة، ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي.
{ولا ينقضون الميثاق} يحتمل أن يريد به جنس المواثيق أي إذا اعتقدوا في طاعة الله عهداً لم ينقضوه...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
عُهُودِ اللَّهِ، وَهِيَ كَثِيرَةُ الْعَدَدِ، مُسْتَمِرَّةُ الْمَدَدِ وَ الْأَمَدِ. أَعْظَمُهَا عَهْدًا،وَأَوْكَدُهَا عَقْدًا مَا كَانَ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَى الْإِيمَانِ. الثَّانِي: مَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثَّالِثُ: مَا رَبَطَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَإِنَّهَا أَلْزَمَتْ عُهُودًا، وَرَبَطَتْ عُقُودًا، وَوَظَّفَتْ تَكْلِيفًا، وَذَلِكَ يَتَعَدَّدُ بِعَدَدِ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، مِنْهَا الْوَفَاءُ بِالْعِرْفَانِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنَّك إلَّا تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. وَمِنْهَا الِانْكِفَافُ عَنْ الْعِصْيَانِ، وَأَقَلُّهُ دَرَجَةً اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَوَاثِيقِ فِي الذِّكْرِ أَلَا تَسْأَلَ سِوَاهُ،...
الحاصل أنه دخل تحت قوله: {يوفون بعهد الله} كل ما قام الدليل عليه. ويصح إطلاق لفظ العهد على الحجة بل الحق أنه لا عهد أوكد من الحجة، والدلالة على ذلك أن من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به، إذا ثبت بالدليل وجوبه لا بمجرد اليمين ولذلك ربما يلزمه أن يحدث نفسه إذا كان ذلك خيرا له فلا عهد أوكد من إلزام الله تعالى إياه ذلك بدليل العقل أو بدليل السمع. ولا يكون العبد موفيا للعهد إلا بأن يأتي بكل تلك الأشياء، كما أن الحالف على أشياء كثيرة لا يكون بارا في يمينه إلا إذا فعل الكل، ويدخل فيه الإتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن كل المنهيات ويدخل فيه الوفاء بالعقود في المعاملات، ويدخل فيه أداء الأمانات، وهذا القول هو المختار الصحيح في تأويل الآية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عهد الله مطلق يشمل كل عهد، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق. والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان؛ والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان... ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر. سواء مع الرسول أو مع الناس. ذوي قرابة أو أجانب. أفرادا أم جماعات. فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود، لأن رعايتها فريضة؛ والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق. فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله. يقررها في كلمات...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وعهد الله مصدر مضاف لمفعوله، أي ما عاهدوا الله على فعله، أو من إضافة المصدر إلى فاعله، أي ما عهد الله به إليهم. وعلى كلا الوَجهين فالمراد به الإيمان الذي أخذه الله على الخلق المشار إليه بقوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى}، وتقدم في سورة الأعراف (172)، فذلك عهدهم ربهم. وأيضاً بقوله: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني} [سورة يس: 60 61]، وذلك عهد الله لهم بأن يعبدوه ولا يعبدوا غيره، فحصل العهد باعتبار إضافته إلى مفعوله وإلى فاعله.
وذلك أمر أودعه الله في فطرة البشر فنشأ عليه أصلهم وتقلّده ذريته، واستمر اعترافهم لله بأنه خالقهم.
وذلك من آثار عهد الله. وطرأ عليهم بعد ذلك تحريف عهدهم فأخذوا يتناسون وتشتبه الأمور على بعضهم فطرأ عليهم الإشراك لتفريطهم النظر في دلائل التوحيد، ولأنه بذلك العهد قد أودع الله في فطرة العقول السليمة دلائل الوحدانية لمن تأمل وأسلم للدليل، ولكن المشركين أعرضوا وكابروا ذلك العهد القائم في الفطرة، فلا جرم أن كان الإشراك إبطالاً للعهد ونقضاً له، ولذلك عطفت جملة ولا ينقضون الميثاق} على جملة {يوفون بعهد الله}.
والتعريف في {الميثاق} يحمل على تعريف الجنس فيستغرق جميع المواثيق وبذلك يكون أعم من عهد الله فيشمل المواثيق الحاصلة بين الناس من عهود وأيمان.
وباعتبار هذا العموم حصلت مغايرة ما بينه وبين عهد الله. وتلك هي مسوغة عطف {ولا ينقضون الميثاق} على {يوفون بعهد اللَّه} مع حصول التأكيد لمعنى الأولى بنفي ضدها، وتعريضاً بالمشركين لاتصافهم بضد ذلك الكمال، فعطفُ التأكيد باعتبار المغايرة بالعموم والخصوص.
والميثاق والعهد مترادفان. والإيفاء ونفي النقض متحداً المعنى. وابتدئ من الصفات بهذه الخصلة لأنها تنبئ عن الإيمان، والإيمان أصل الخيرات وطريقها، ولذلك عطف على {يوفون بعهد الله} قوله: {ولا ينقضون الميثاق} تحذيراً من كل ما فيه نقضه.
وهذه الصلات صفات لأولي الألباب فعطفها من باب عطف الصفات للموصوف الواحد، وليس من عطف الأصناف...
فالمعنى: الذين يتصفون بمضمون كل صلة من هذه الصلات كلما عرض مقتض لاتّصافهم بها بحيث إذا وجد المقتضي ولم يتصفوا بمقتضاه كانوا غير متصفين بتلك الفضائل، فمنها ما يستلزم الاتصاف بالضد، ومنها ما لا يسْتلزم إلا التفريط في الفضل.
وأعيد اسم الموصول هذا وما عطف عليه من الأسماء الموصولة، للدلالة على أنها صلاتها خصال عظيمة تقتضي الاهتمام بذكر من اتصف بها، ولدفع توهم أن عقبى الدار لا تتحقق لهم إلا إذا جمعوا كل هذه الصفات.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الوفاء بالعهد من صفات المؤمنين، ومن خصال الإيمان؛ وذلك لأن الوفاء يقتضي أن تصدق النفس في ذاتها وأن تدرك ما يجب في حق النفس، ويشعر المرء بالمعادلة في الحياة بينه وبين الناس، يشعر بحقهم عليه كما يطالبهم بحقه عليهم؛ ولذا كان علامة من علامات الإيمان. وكان خلف العهد علامة من علامات النفاق؛ لأن المنافق يحسب أن الناس خلقوا له يستغلهم ولا يعطيهم، يأخذ منهم ولا يقدم لهم...
والعهد سواء أكان مضافا إلى الله تعالى أم كان مضافا إلى العبد واجب الوفاء؛ لأنه من أمر الله، والنقض من أمر الله تعالى، فمن أوفى بعهده للناس فقد أوفى بعهد الله تعالى، وقد قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [الأنعام 1]...