وقوله : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } أي : يوم القيامة ، كما قال تعالى : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون } [ التوبة : 105 ] أي : فيخبركم به ، ويجزيكم عليه أتم الجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىَ * ثُمّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأوْفَىَ * وَأَنّ إِلَىَ رَبّكَ الْمُنتَهَىَ * وَأَنّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىَ } .
قوله جلّ ثناؤه : وأنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى يقول تعالى ذكره : وأن عمل كلّ عامل سوف يراه يوم القيامة ، من ورد القيامة بالجزاء الذي يجازى عليه ، خيرا كان أو شرّا ، لا يؤاخد بعقوبة ذنب غير عامله ، ولا يُثاب على صالح عمله عامل غيره . وإنما عُنِي بذلك : الذي رجع عن إسلامه بضمان صاحبه له أن يتحمل عنه العذاب ، أن ضمانه ذلك لا ينفعه ، ولا يُغني عنه يوم القيامة شيئا ، لأن كلّ عامل فبعمله مأخوذ .
وقوله : { يرى } فاعله حاضر والقيامة ، أي يراه الله ومن شاهد الأمر ، وفي عرض الأعمال على الجميع تشريف للمحسنين وتوبيخ للمسيئين ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة »{[4]} .
يجوز أن تكون عطفاً على جملة { ألا تزر وازرة وزر أخرى } [ النجم : 38 ] فهي من تمام تفسير { ما في صحف موسى وإبراهيم } [ النجم : 36 ، 37 ] فيكون تغيير الأسلوب إذ جيء في هذه الآية بحرف { أنَّ } المشددة لاقتضاء المقام أن يقع الإِخبار عن سَعي الإنسان بأنه يُعلن به يوم القيامة { وذلك من توابع أن ليس به إلاّ ما سعى } ، فلما كان لفظ { سعيه } صالحاً للوقوع اسماً لحرف { أنَّ } زال مقتضِي اجتلاب ضمير الشأن فزال مقتضِي { أَنْ } المخففة . وقد يكون مضمون هذه الجملة في شريعة إبراهيم ما حكاه الله عنه من قوله : { ولا تخزني يوم يبعثون } [ الشعراء : 87 ] ويجوز أن لا يكون قوله مضمون قوله : { وأن سعيه } مشمولاً لما في صحف موسى وإبراهيم فعطفُه على { ما } الموصولة من قوله : { بما في صحف موسى وإبراهيم } [ النجم : 36 ، 37 ] ، عطف المفرد على المفرد فيكون معمولاً لباء الجر في قوله : { فِى صُحُفِ مُوسَى } الخ ، والتقدير : لم ينبأ بأن سعي الإنسان سوف يُرى ، أي لا بد أن يرى ، أي يجازى عليه ، أي لم ينبأ بهذه الحقيقة الدينية وعليه فلا نتطلب ثبوت مضمون هذه الجملة في شريعة إبراهيم عليه السلام .
و { سوف } حرف استقبال والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد .
ومعنى { يرى } يشاهد عند الحساب كما في قوله تعالى : { ووجدوا ما عملوا حاضراً } [ الكهف : 49 ] ، فيجوز أن تجسم الأعمال فتصير مشاهدة وأمور الآخرة مخالفة لمعتاد أمور الدنيا . ويجوز أن تجعل علامات على الأعمال يُعلن بها عنها كما في قوله تعالى : { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } [ التحريم : 8 ] . وما في الحديث « يُنْصَب لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان » فيقدر مضاف تقديره : وأن عنوان سعيه سوف يرى .
ويجوز أن يكون ذلك بإشهار العمل والسعي كما في قوله تعالى : { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة } [ الأعراف : 49 ] الآية ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم « من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة » فتكون الرؤية مستعارة للعلم لقصد تحقق العلم واشتهاره .
وحكمة ذلك تشريف المحسنين بحسن السمعة وانكسار المسيئين بسُوء الأحدوثة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأن سعيه} يعني عمله في الدنيا {سوف يرى} في الآخرة حين ينظر إليه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله جلّ ثناؤه:"وأنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى "يقول تعالى ذكره: وأن عمل كلّ عامل سوف يراه يوم القيامة، من ورد القيامة بالجزاء الذي يجازى عليه، خيرا كان أو شرّا، لا يؤاخذ بعقوبة ذنب غير عامله، ولا يُثاب على صالح عمله عامل غيره. وإنما عُنِي بذلك: الذي رجع عن إسلامه بضمان صاحبه له أن يتحمل عنه العذاب، أن ضمانه ذلك لا ينفعه، ولا يُغني عنه يوم القيامة شيئا، لأن كلّ عامل فبعمله مأخوذ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأن سعيه سوف يُرى} وحرف سوف من الله سبحانه وتعالى على التحقيق والإيجاب كحرف لعل وعسى، فيكون قوله تعالى: {سوف يُرى} أي يرى جزاء عمله، لا محالة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أي يراه الله ومن شاهد الأمر، وفي عرض الأعمال على الجميع تشريف للمحسنين وتوبيخ للمسيئين...
{وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزيه الجزاء الأوفى} أي يعرض عليه ويكشف له من أريته الشيء، وفيه بشارة للمؤمنين على ما ذكرنا، وذلك أن الله يريه أعماله الصالحة ليفرح بها، أو يكون يرى ملائكته وسائر خلقه ليفتخر العامل به على ما هو المشهور وهو مذكور لفرح المسلم ولحزن الكافر، فإن سعيه يرى للخلق، ويرى لنفسه ويحتمل أن يقال: هو من رأى يرى فيكون كقوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله}. وفيها وفي الآية التي بعدها مسائل:
الأولى: العمل كيف يرى بعد وجوده ومضيه؟ نقول فيه وجهان:
(أحدهما) يراه على صورة جميلة إن كان العمل صالحا.
(ثانيهما) هو على مذهبنا غير بعيد فإن كل موجود يرى، والله قادر على إعادة كل معدوم فبعد الفعل يرى وفيه.
(وجه ثالث): وهو أن ذلك مجاز عن الثواب يقال: سترى إحسانك عند الملك أي جزاءه عليه وهو بعيد لما قال بعده: {ثم يجزاه الجزاء الأوفى}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ثبت أنه ليس له ولا عليه إلا ما عمل، وكان في الدنيا قد يفعل الشيء من الخير والشر ولا يراه من فعله لأجله ولا غيره، نفى أن يكون الآخرة كذلك بقوله: {وأن سعيه} أي من خير وشر {سوف} أي من غير شك بوعد لا خلف فيه وإن طال المدى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... ومعنى {يرى} يشاهد عند الحساب كما في قوله تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضراً} [الكهف: 49]، فيجوز أن تجسم الأعمال فتصير مشاهدة وأمور الآخرة مخالفة لمعتاد أمور الدنيا. ويجوز أن تجعل علامات على الأعمال يُعلن بها عنها كما في قوله تعالى: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} [التحريم: 8]. وما في الحديث « يُنْصَب لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان» فيقدر مضاف تقديره: وأن عنوان سعيه سوف يرى. ويجوز أن يكون ذلك بإشهار العمل والسعي كما في قوله تعالى: {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة} [الأعراف: 49] الآية، فتكون الرؤية مستعارة للعلم لقصد تحقق العلم واشتهاره. وحكمة ذلك تشريف المحسنين بحسن السمعة وانكسار المسيئين بسُوء الأحدوثة.