إنما يكابر المشركون ويعاندون لمجرد المكابرة والعناد ، لا لضعف الحجة ولا لقصور الدليل ؛ فلو جاءهم به أعجمي لا ينطق العربية فتلاه عليهم قرآنا عربيا ما آمنوا به ، ولا صدقوه ، ولا اعترفوا أنه موحى به إليه ، حتى مع هذا الدليل الذي يجبه المكابرين :
( ولو نزلناه على بعض الأعجمين ، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ) . .
وفي هذا تسريه عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتصوير لعنادهم ومكابرتهم في كل دليل . ثم يعقب على هذا بأن التكذيب مكتوب على القوم ملازم لهم بحكم عنادهم ومكابرتهم . فهكذا قضي الأمر أن يتلقوه بالتكذيب ، كأنه طبع في قلوبهم لا يحول . حتى يأتيهم العذاب وهم في غفلة لا يشعرون :
ثم قال تعالى مخبرًا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن ؛ أنه لو أنزله على رجل من الأعاجم ، مِمَّنْ لا يدري من العربية كلمة ، وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته ، لا يؤمنون به ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ . فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } ، كما أخبر عنهم في الآية الأخرى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ . لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [ الحجر : 14 ، 15 ] وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [ الأنعام : 111 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] . ذ
وقوله : وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمِينَ يقول تعالى ذكره : ولو نزّلنا هذا القرآن على بعض البهائم التي لا تنطق ، وإنما قيل على بعض الأعجميين ، ولم يقل على بعض الأعجمين ، لأن العرب تقول إذا نعتت الرجل بالعُجمة وأنه لا يفصح بالعربية : هذا رجل أعْجم ، وللمرأة : هذه امرأة عَجْماء ، وللجماعة : هؤلاء قوم عُجْم وأعجمون ، وإذا أريد هذا المعنى وصف به العربيّ والأعْجَميّ ، لأنه إنما يعني أنه غير فصيح اللسان ، وقد يكون كذلك ، وهو من العرب ومن هذا المعنى قول الشاعر :
مِنْ وَائِلٍ لا حَيّ يَعْدِلُهُمْ *** مِنْ سُوقَةٍ عَرَبٌ وَلا عُجْمُ
فأما إذا أريد به نسبة الرجل إلى أصله من العجم ، لا وصفه بأنه غير فصيح اللسان ، فإنه يقال : هذا رجل عجميّ ، وهذان رجلان عجميان ، وهؤلاء قوم عَجَم ، كما يقال : عربيّ ، وعربيان ، وقوم عرب . وإذا قيل : هذا رجل أعجميّ ، فإنما نسب إلى نفسه كما يقال للأحمر : هذا أحمري ضخم ، وكما قال العجاج :
*** والدّهْرَ بالإِنْسانِ دَوّارِيّ ***
ومعناه : دوّار ، فنسبه إلى فعل نفسه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : كنت واقفا إلى جنب عبد الله بن مطيع بعرفة ، فتلا هذه الاَية : وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعجْمَينَ . فقَرأهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ قال : لو نزل على بعيري هذا فتكلم به ما آمنوا به لقَالُوا : لَوْلاَ فُصّلَتْ آيَاتُهُ حتى يفقهه عربيّ وعجميّ ، لو فعلنا ذلك .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : كان عبد الله بن مطيع واقفا بعرفة ، فقرأ هذه الاَية وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فقرأه عليهم ، قال : فقال : جملي هذا أعجم ، فلو أُنزل على هذا ما كانوا به مؤمنين . ورُوي عن قِتادة في ذلك ما .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمِينَ قال : لو نزله الله أعجميا كانوا أخسر الناس به ، لأنهم لا يعرفون بالعجمية .
وهذا الذي ذكرناه عن قتادة قول لا وجه له ، لأنه وجّه الكلام أن معناه : ولو أنزلناه أعجميا ، وإنما التنزيل وَلَوْ نَزّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمينَ يعني : ولو نزّلنا هذا القرآن العربيّ علي بهيمة من العجم أو بعض ما لا يفصح ، ولم يقل : ولو نزّلناه أعجميا . فيكون تأويل الكلام ما قاله .
ثم سلى محمداً صلى الله عليه وسلم عن صدود قومه عن الشرع بأن أخبر أن هذا القرآن العربي لو سمعوه من أعجمي أي من حيوان غير ناطق أو من جماد ، و «الأعجم » كل ما لا يفصح ، ما كانوا يؤمنون أي قد ختم الكفر عليهم فلا سبيل إلى إيمانهم ، والأعجمون جمع أعجم وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب{[2]} يقال له أعجم ، وكذلك يقال للحيونات والجمادات ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «جرح العجماء جبار »{[3]} ، وأسند الطبري عن عبد الله بن مطيع أنه قال حين قرأ هذه الآية وهو واقف بعرفة : جملي هذا أعجم فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون ، والعجمي هو الذي نسبه في العجم وإن كان أفصح الناس ، وقرأ الحسن «الأعجميين » .
قال أبو حاتم أراد جمع الأعجمي المنسوب ، وقال بعض النحويين «الأعجمون » جمع أعجم أضيف فقويت بالإضافة رتبته في الأسماء فجمع وليس بأعجمي النسبة إلى العجم{[4]} .
كان من جملة مطاعن المشركين في القرآن أنه ليس من عند الله ، ويقولون : تقوله محمد من عند نفسه ، وقالوا { أساطير الأولين اكتتبها } [ الفرقان : 5 ] فدمغهم الله بأن تحدّاهم بالإتيان بمثله فعجزوا .
وقد أظهر الله بهتانهم في هذه الآية بأنهم إنما قالوا ذلك حيث جاءهم بالقرآن رسول عربي ، وأنه لو جاءهم بهذا القرآن رسول أعجمي لا يعرف العربية بأن أوحى الله بهذه الألفاظ إلى رسول لا يفهمها ولا يحسن تأليفها فقرأه عليهم ، وفي قراءته وهو لا يحسن اللغة أيضاً خارق عادة ؛ لو كان ذلك لما آمنوا بأنه رسول مع أن ذلك خارق للعادة فزيادة قوله : { عليهم } زيادة بيان في خرق العادة . يعني أن المشركين لا يريدون مما يلقونه من المطاعن البحث عن الحق ولكنهم أصروا على التكذيب وطفقوا يتحملون أعذاراً لتكذيبهم جحوداً للحق وتستراً من اللائمين .
وجملة : { ولو نزلناه على بعض الأعجمين } معطوفة على جملة : { نزل به الروح الأمين على قلبك } إلى قوله : { بلسان عربي مبين } [ الشعراء : 193 195 ] لأن قوله : { على قلبك } أفاد أنه أوتيه من عند الله وأنه ليس من قول النبي لا كما يقول المشركون : تَقَوَّله ، كما أشرنا إليه آنفاً .
فلما فرغ من الاستدلال بتعجيزهم فضح نياتهم بأنهم لا يؤمنون به في كل حال ، قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آية } [ يونس : 96 ، 97 ] .
و { الأعجمين } جمع أعجم . والأعجم : الشديد العُجمة ، أي لا يحسن كلمة بالعربية ، وهو هنا مرادف أعجمي بياء النسب فيصح في جمعه على أعجمين اعتبارُ أنه لا حذف فيه باعتبار جمع أعجم كما قال حميد بن ثور يصف حمامة :
ولم أر مثلي شاقه لفظ مثلها *** ولا عربياً شاقه لفظُ أعجما
ويصح اعتبار حذف ياء النسب للتخفيف . وأصله : الأعجميين كما في الشعر المنسوب إلى أبي طالب :
وحيثُ ينيخ الأشْعَرُون رِحالهم *** بملقَى السيول بين سَافٍ ونائل