( وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ) . . وفي التعبير شدة في الجرس والمعنى ، يناسب الحديث عن الشدة والقوة . وأغطش ليلها أي أظلمه . وأخرج ضحاها . أي أضاءها . ولكن اختيار الألفاظ يتمشى في تناسق مع السياق . . وتوالي حالتي الظلام والضياء ، في الليل والضحى الذي هو أول النهار ، حقيقة يراها كل أحد ؛ ويتأثر بها كل قلب . وقد ينساها بطول الألفة والتكرار ، فيعيد القرآن جدتها بتوجيه المشاعر إليها . وهي جديدة أبدا . تتجدد كل يوم ، ويتجدد الشعور بها والانفعال بوقعها . فأما النواميس التي وراءها فهي كذلك من الدقة والعظمة بحيث تروع وتدهش من يعرفها . . فتظل هذه الحقيقة تروع القلوب وتدهشها كلما اتسع علمها وكبرت معرفتها !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } .
وقوله : وأغْطَشَ لَيْلَها يقول تعالى ذكره : وأظلم ليل السماء ، فأضاف الليل إلى المساء ، لأن الليل غروب الشمس ، وغروبها وطلوعها فيها ، فأضيف إليها لَمّا كان فيها ، كما قيل نجوم الليل ، إذ كان فيه الطلوع والغروب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وأغْطَش لَيْلَها يقول : أظلم ليلها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وأغْطَشَ لَيْلَها يقول : أظلم ليلها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وأغْطَشَ لَيْلَها قال : أظلم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأغْطَشَ لَيْلَها قال : أظلم ليلَها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأغْطَشَ لَيْلَها قال : أظلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأغْطَشَ لَيْلَها قال : الظّلمة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وأغْطَشَ لَيْلَها يقول : أظلم ليلَها .
حدثنا محمد بن سِنانٍ القزّاز ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم عن عكرِمة وأغْطَشَ لَيْلَها قال : أظلم ليلها .
وقوله : وأخْرَجَ ضُحاها يقول : وأخرج ضياءها ، يعني : أبرز نهارها فأظهره ، ونوّر ضحاها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأخْرَجَ ضُحاها نوّرها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأخْرَجَ ضُحاها يقول : نوّر ضياءها .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وأخْرَجَ ضُحاها قال : نهارَها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأخْرَجَ ضُحاها قال : ضوء النهار .
{ وأغطش } معناه : أظلم ، والأغطش الأعمى ومنه قول الشاعر [ الأعشى ] : [ المتقارب ]
نحرت لهم موهناً ناقتي*** وليلُهم مدلهمٌّ عطش{[11611]}
وجملة { وأغطش ليلها } معطوفة على جملة { بناها } وليست معطوفة على { رفع سمكها } لأن إغطاش وإخراج الضحى ليس مما يبين به البناء .
والإِغطاش : جعله غاطشاً ، أي ظلاماً يقال : غَطَش الليل من باب ضرب ، أي أظلم .
والمعنى : أنه خَصَّ الليل بالظلمة وجعله ظلاماً ، أي جعل ليلها ظلاماً ، وهو قريب من قوله : { رفع سمكها } من باب قولهم : ليل ألْيَل .
وإخراج الضحى : إبراز نور الضحى ، وأصل الإِخراج النقل من مكان حاوٍ واستعير للإِظهار استعارة شائعة .
والضحى : بروز ضوء الشمس بعد طلوعها وبعد احمرار شعاعها ، فالضحى هو نور الشمس الخالص وسمي به وقته على تقدير مضاف كما في قوله تعالى : { وأن يحشر الناس ضحى } [ طه : 59 ] يدل لذلك قوله تعالى : { والشمس وضحاها } [ الشمس : 1 ] ، أي نورها الواضح .
وإنما جعل إظهار النور إخراجاً لأن النور طارىء بعد الظلمة ، إذ الظلمة عَدَم وهو أسبق ، والنور محتاج إلى السبب الذي ينيره .
وإضافة ( ليل ) و ( ضحى ) إلى ضمير { السماء } إن كان السماء الدنيا فلأنهما يلوحان للناس في جوّ السماء فيلوح الضحى أشعة منتشرة من السماء صادرة من جهة مطلع الشمس فتقع الأشعة على وجه الأرض ثم إذا انحجبت الشمس بدورة الأرض في اليوم والليلة أخذ الظلام يحلّ محلّ ما يتقلص من شعاع الشمس في الأفق إلى أن يصير ليلاً حالكاً محيطاً بقسم من الكرة الأرضية .
وإن كان السماء جنساً للسماوات فإضافة ليل وضحى إلى السماوات لأنهما يلوحان في جهاتها .