{ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ } ، أي : لا تحرموا وتحللوا من تلقاء أنفسكم ، كذبا وافتراء على الله وتقولا عليه .
{ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ } ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا بد أن يظهر الله خزيهم وإن تمتعوا في الدنيا فإنه { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } ، ومصيرهم إلى النار ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، فالله تعالى ما حرم علينا إلا الخبيثات تفضلا منه ، وصيانة عن كل مستقذر .
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين ، الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وضعوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم ، من البَحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وغير ذلك مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم ، فقال : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } ، ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس [ له ]{[16728]} فيها مستند شرعي ، أو حلل شيئا مما حرم الله ، أو حرم شيئا مما أباح الله ، بمجرد رأيه وتشهِّيه .
و " ما " في قوله : { لِمَا } مصدرية ، أي : ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم .
ثم توعد على ذلك فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ } ، أي : في الدنيا ولا في الآخرة . أما في الدنيا فمتاع{[16729]} قليل ، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم ، كما قال : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] .
وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هََذَا حَلاَلٌ وَهََذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ إِنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الحجاز والعراق وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنتُكُمُ الكَذِبَ فتكون تصف الكذب ، بمعنى : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب ، فتكون «ما » بمعنى المصدر . وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ : «وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبِ » هذا بخفض الكذب ، بمعنى : ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم ، هَذَا حَلاَلٌ وهذَا حَرَامٌ ، فيجعل الكذب ترجمة عن «ما » التي في «لِمَا » ، فتخفضه بما تخفض به «ما » . وقد حُكي عن بعضهم : «لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكمُ الكُذُبُ » يرفع «الكُذُب » ، فيجعل الكُذُب من صفة الألسنة ، ويخرج على فُعُل على أنه جمع كُذُوب وكُذُب ، مثل شُكُور وشُكُر .
والصواب عندي من القراءة في ذلك نصب «الكَذِب » لإجماع الحجة من القرّاء عليه . فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك لما ذكرنا : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذبَ فيما رزق الله عباده من المطاعم : هذا حلال ، وهذا حرام ، كي تفتروا على الله بقيلكم ذلك الكذبَ ، فإن الله لم يحرم من ذلك ما تحرّمون ، ولا أحلّ كثيرا مما تُحِلّون . ثم تقدّم إليهم بالوعيد على كذبهم عليه ، فقال : { إنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ } ، يقول : إن الذين يتخرّصون على الله الكذب ويختلقونه ، لا يخلّدون في الدنيا ولا يبقون فيها ، إنما يتمتعون فيها قليلاً . وقال : { مَتاعٌ قَلِيلٌ } فرفع ، لأن المعنى الذي هم فيه من هذه الدنيا متاع قليل ، أو لهم متاع قليل في الدنيا . وقوله : { ولَهُمْ عَذَابٌ أليمٌ } ، يقول : ثم إلينا مرجعهم ومعادهم ، ولهم على كذبهم وافترائهم على الله بما كانوا يفترون عذاب عند مصيرهم إليه أليم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : { لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذَا حَلالٌ وهذَا حَرَامٌ } ، في البحيرة والسائبة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : البحائر والسوائب .
وقوله : { متاع قليل } ، إشارة إلى عيشهم في الدنيا ، { ولهم عذاب أليم } ، بعد ذلك في الآخرة . وقوله : { وعلى الذين هادوا } الآية ، لما قص تعالى على المؤمنين ما حرم عليهم ، أعلم أيضاً بما حرم على اليهود ليبين تبديلهم الشرع فيما استحلوا من ذلك وفيما حرموا من تلقاء أنفسهم ، وقولهم : { ما قصصنا عليك } ، إشارة إلى ما في سورة الأنعام «من ذي الظفر والشحوم »{[7442]} الآية .