محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{مَتَٰعٞ قَلِيلٞ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (117)

[ 117 ] { متاع قليل ولهم عذاب أليم 117 } .

ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم ، في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها ، مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم . فقال :

/ [ 116 ] { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون 116 } .

{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم } ، أي : لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم ، بالحل والحرمة في قولكم : { ما في بطون الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } ، من غير إستناد ذلك الوصف إلى وحي من الله . ف { الكذب } ، مفعول { تقولوا } ، وقوله : { هذا حلال وهذا حرام } ، بدل من { الكذب } ، واللام صلة للقول . كما يقال : لا تقل للنبيذ إنه حلال ، أي : في شأنه وحقه . فهي للاختصاص . وفي إشارة إلى أنه مجرد قول باللسان ، لا حكم مصمم عليه . أو { هذا حلال } ، مفعول { تقولوا } ، و { الكذب } مفعول { تصف } ، واللام في { لما تصف } تعليلية ، و ( ما ) مصدرية . ومعنى تصف تذكر . وقوله : { لتفتروا } ، بدل من التعليل الأول . أي : لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب ، أي : لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة . وليس بتكرار مع قوله : { لتفتروا على الله الكذب } ؛ لأن هذا لإثبات الكذب مطلقا ، وذلك إثبات الكذب على الله . فهو إشارة إلى أنهم ، لتمرنهم على الكذب ، اجترؤوا على الكذب على الله ، فنسبوا ما حللوه وحرموه إليه . وعلى هذا الوجه كون الكذب مفعول : { تصف } ففي وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب ، لجعله عين الكذب . ترقى عنها إلى حيل أن ماهية الكذب كانت مجهولة ، / حتى كشف كلامهم عن ماهية الكذب وأوضحها ، ف { تصف } ، بمعنى توضح . فهو بمنزلة الحد والتعريف الكاشف عن ماهية الكذب . فالتعريف في الكذب للجنس . كأن ألسنتهم إذا نطقت كشفت عن حقيقته . وعليه قول المعري{[5337]} :

سرى برق المعرة بعد وهن *** فبات برامة يصف الكلالا

ونحوه ( نهاره صائم ) ، إذا وصف اليوم بما يوصف به الشخص ، لكثرة وقوع ذلك الفعل فيه . و ( وجهها يصف الجمال ) ؛ لأن وجهها لما كان موصوفا بالجمال الفائق ، صار كأنه حقيقة الجمال ومنبعه ، الذي يعرف منه . حتى كأنه يصفه ويعرفه ، كقوله :

أضحت يمينك من جود مصورة *** لا بل يمينك منها صور الجود

فهو من الإسناد المجازي . أو نقول : إن وجهها يصف الجمال بلسان الحال . فهو استعارة مكنية . كأنه يقول : ما بي هو الجمال بعينه . ومثله وارد في كلام العرب والعجم . هذا زبدة ما في ( شروح الكشاف ) .

وما في الآية أبلغ من المثال المذكور ، لما سمعت . أفاده في ( العناية ) . واللام في { لتفتروا } ، لام الصيرورة والعاقبة المستعارة من التعليلية . إذ ما صدر منهم ليس لأجل هذا ، بل لأغراض أخر يترتب عليها ما ذكر . وجوز كونها تعليلية ، وقصدهم لذلك غير بعيد . وفي قوله تعالى : { إن الذين يفترون . . . . } الآية ، وعيد شديد بعدم ظفرهم وفوزهم بمطلوب يعتد به لا في الدنيا ولا في الآخرة . أما في الدنيا ، فلأن ما يفترون لأجله متاع قليل ينقطع عن قريب . وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم ، كما قال{[5338]} : { نمتّعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } .

تنبيه :

قال الحافظ ابن كثير : يدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي / أو حلل شيئا مما حرم الله . أو حرم شيئا مما أباح الله ، بمجرد رأيه وتشهيّه .

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال : قرأت هذه الآية في سورة النحل . فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا .

قال في ( فتح البيان ) : صدق رحمه الله . فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله ، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما يقع كثيرا من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية . أو الجاهلين بعلم الكتاب والسنة .

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : " عسى رجل يقول : إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا . فيقول الله عز وجل : كذبت . أو يقول : إن الله حرم كذا وأحل كذا : فيقول الله له : كذبت " .

قال ابن العربي : كره مالك وقوم أن يقول المفتي : هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية . وإنما يقال ذلك فيما نص الله عليه . ويقال في المسائل الاجتهادية : إني أكره كذا وكذا ، ونحو ذلك .


[5337]:انظر الحاشية رقم 2 بالصفحة 527 (هذا الجزء).
[5338]:[31 / لقمان / 24].