التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{مَتَٰعٞ قَلِيلٞ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (117)

التلقين الذي احتوته جملة : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام }

ولسنا نرى ضرورة للتعليق على أصل الموضوع ومبدأ الاضطرار فقد علقنا عليه بما فيه الكفاية في تفسير سورة الأنعام . غير أننا نود أن نلفت النظر بخاصة إلى الآية [ 117 ] وما احتوته من تلقين مستمر المدى يمكن أن يكون شاملا لمتنوع الشؤون ، وغير قاصر على محرمات اللحوم والطعام بسبب إطلاقها ، حيث نهت المسلمين عن إلقاء الكلام على عواهنه في التحليل والتحريم مطلقا ، ونسبة ذلك إلى الله من دون تثبت وتدبر وسند وثيق . ففي ذلك افتراء على الله وتضييق لما وسع وتعطيل لحكمته المتمشية مع المصلحة والعقل وطبائع الأشياء .

ولقد أوردنا في تعلقينا على آيات سورة الأنعام المار ذكرها حديثا نبويا جاء فيه : ( الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ) . حيث ينطوي في هذا الحديث تحديد لما يجب على المؤمن أن يقف عنده من حدود في صدد التحليل والتحريم .

على أن من الواجب التنبيه على أمر هام نبهنا عليه أيضا في التعليق المذكور ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المصدر الثاني للتشريع الواجب على المؤمنين اتباع ما أمر به ونهى عنه بعد القرآن ، وأنه يصح أن يصدر عنه تحليل وتحريم لما سكت عنه القرآن أو جاء فيه غامضا وغير مستوف لكل جانب . ولقد روي عنه أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة مثل ذلك أوردنا بعضها في سياق التعليق المذكور .

وهي في صدد الذبائح والأطعمة الحيوانية ، وهناك أحاديث أخرى في صدد الألبسة والأشربة وغيرها أيضا وردت في كتب الأحاديث الصحيحة . من ذلك مثلا حديث رواه الشيخان والنسائي عن حذيفة قال : ( نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة ، وأن نأكل فيهما ، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه ) {[1290]} . وحديث رواه أصحاب السنن عن علي قال : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه ، وأخذ ذهبا فجعله في شماله ، ثم قال : إن هذين حرام على ذكور أمتي ) {[1291]} .

والتلقين المنطوي في الآية في عدم جواز التحليل والتحريم جزافا ، ونسبة ذلك إلى الله افتراء ينسحب على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز لمؤمن أن ينسب إليه التحريم والتحليل جزافا بدون تثبت وتدبر وسند وثيق افتراء عليه كما هو المتبادر .

والآية الأخيرة وإن كانت على ما يتبادر متصلة بموضوع الآيات ، ودليلا على أن موضوعها مما أثير من بعض المسلمين ، أو بسبب تصرف بعضهم فإن فيها توكيدا لمبدأ التوبة القرآني وفي أسلوبها عمومية وشمول . ولقد علقنا على هذا المبدأ بما فيه الكفاية في سورة الفرقان والبروج فلا ضرورة للإعادة .

هذا وفي الآيات دلالة على أن سورة الأنعام قد سبقت في النزول هذه السورة كما هو واضح ؛ لأن المحرمات على اليهود قد ذكرت في تلك السورة وعطف عليها هنا . وفي هذا نقض حاسم لترتيب بعض المستشرقين {[1292]} لنزول سورة الأنعام كآخر السور أو من أواخرها نزولا .


[1290]:التاج ج 3 ص 134.
[1291]:المصدر نفسه ص 135 ونكتفي بهذين المثلين اللذين لهما أمثال كثيرة في شؤون كثيرة .وننبه على أن هناك حديثا رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أنس قال: ( رخّص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس الحرير لحكة كانت بهما ) ص 135. والرخصة في الحديث متساوقة مع النص القرآني بإباحة المحظور للمضطر في الآية التي نحن في صددها وفي أمثالها. وقد يكون من الحكمة الملموحة في تحريم الأكل والشرب بآنية الذهب والفضة على المسلمين رجالهم ونسائهم قصد تفادي البطر والترف والتبذير وتعالي أغنياء المسلمين الذين قد يتيسر لهم ذلك على فقرائهم. وقد يكون من الحكمة الملموحة في تحريم لبس الحرير والذهب على الرجال قصد الارتفاع بهم عن التشبه بالنساء في ما يليق لهن من لباس وحلي. والله تعالى أعلم. ويلحظ آن الله عز وجل وعد المؤمنين في آيات عديدة مرت أمثلة منها بلباس الحرير وحلي الذهب واللؤلؤ في الآخرة وبالأكل والشرب بآنية الذهب والفضة حيث يلمح من ذلك قصد التعويض عليهم عما حرموه؛ لأن ما يرد من ذلك في الدنيا غير وارد في الاخرة والله تعالى أعلم.
[1292]:المستشرق ويل.