{ 38 - 52 } { فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }
وبعد هذا العرض - الذى بلغ الذروة فى قوة التأثير - لأهوال يوم القيامة ، ولبيان حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة المكذبين . . بعد كل ذلك أخذت السورة فى أواخرها ، فى تقرير حقيقة هذا الدين ، وفى تأكيد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وفى بيان أن هذا القرآن من عنده - تعالى - وحده . . فقال - سبحانه - :
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا . . . } .
الفاء فى قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ . وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } للتفريع على ما فهم مما تقدم ، من
إنكار المشركين ليوم القيامة ، ولكون القرآن من عند الله .
و { لا } فى مثل هذا التركيب يرى بعضهم أنها مزيدة ، فيكون المعنى : أقسم بما تبصرون من مخلوقاتنا كالسماء والأرض والجبال والبحار . . وبما لا تبصرون منها ، كالملائكة والجن .
يقول تعالى مُقسمًا لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته ، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم : إن القرآن كلامُه ووحيه وتنزيلُه على عبده ورسوله ، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، فقال : { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني : محمدًا ، أضافه إليه على معنى التبليغ ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل ؛ ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } وهذا جبريل ، عليه السلام .
ثم قال : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ } يعني : أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها ، { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي : بمتهم { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [ التكوير : 19 - 25 ] ، وهكذا قال هاهنا : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } ،
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فلا ، ما الأمر كما تقولون معشر أهل التكذيب بكتاب الله ورسله ، أقسم بالأشياء كلها التي تبصرون منها ، والتي لا تبصرون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ومَا لا تُبْصِرُونَ قال : أقسم بالأشياء ، حتى أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ يقول : بما ترون وبما لا ترون .
وقوله تعالى : { فلا أقسم } ، قال بعض النحاة «لا » زائدة والمعنى : فأقسم ، وقال آخرون منهم : «لا » رد لما تقدم من أقوال الكفار ، والبداءة { أقسم } وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «فلأقسم » ، لام القسم معها ألف أقسم{[11299]} ، وقوله تعالى : { بما تبصرون وما لا تبصرون } . قال قتادة بن دعامة : أراد الله تعالى أن يعمم في هذا القسم جميع مخلوقاته . وقال غيره : أراد الأجساد والأرواح . وهذا قول حسن عام ، وقال ابن عطاء : «ما تبصرون » ، من آثار القدرة { وما لا تبصرون } من أسرار القدرة ، وقال قوم : أراد بقوله : { وما لا تبصرون } الملائكة .
الفاء هنا لتفريع إثبات أن القرآن منزل من عند الله ونفي ما نسبه المشركون إليه ، تفريعاً على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من التعريض بتكذيب القرآن الذي أخبَر بوقوعه ، وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم القائل إنه موحى به إليه من الله تعالى .
وابتدىء الكلام بالقَسَم تحقيقاً لمضمونه على طريقة الأقسام الواردة في القرآن ، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { والصافات صفاً } [ الصافات : 1 ] .