{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا } وقلدناهم على ضلالهم ، { فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ }
كقوله تعالى { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بعد إذ جاءني } الآية .
ثم تنطلق من نفوسهم النقمة على سادتهم وكبرائهم ، الذين أضلوهم ، وبالإنابة إلى الله وحده ، حيث لا تنفع الإنابة :
( وقالوا : ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) . . هذه هي الساعة . ففيم السؤال عنها ? إن العمل لها هو المخلص الوحيد من ذا المصير المشؤوم فيها !
عطف على جملة { يقولون } [ الأحزاب : 66 ] فهي حال . وجيء بها في صيغة الماضي لأن هذا القول كان متقدماً على ولهم : { يا ليتنا أطعنا الله } [ الأحزاب : 66 ] ، فذلك التمني نشأ لهم وقت أن مسّهم العذاب ، وهذا التنصل والدعاء اعتذروا به حين مشاهدة العذاب وحشرهم مع رؤسائهم إلى جهنم ، قال تعالى : { حتى إذا داركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون } [ الأعراف : 38 ] . فدل على أن ذلك قبل أن يمسهم العذاب بل حين رُصفوا ونسقوا قبل أن يصبّ عليهم العذاب ويطلق إليهم حرّ النار .
والابتداء بالنداء ووصف الربوبية إظهار للتضرع والابتهال . والسادة : جمع سَيِّد . قال ابو علي : وزنه فَعَلة ، أي مثل كَمَلة لكن على غير قياس لأن صيغة فَعَلَة تطَّرد في جمع فاعل لا في جمع فَيْعِل ، فقلبت الواو ألفاً لانفتاحها وانفتاح ما قبلها . وأما السادات فهو جمع الجمع بزيادة ألف وتاء بزنة جمع المؤنث السالم . والسادة : عظماء القوم والقبائل مثل الملوك .
وقرأ الجمهور { سادتنا } . وقرأ ابن عامر ويعقوب { ساداتِنا } بألف بعد الدال وبكسر التاس لأنه جمع بألف وتاء مزيدتين على بناء مفرده . وهو جمع الجمع الذي هو سادة . والكبراء : جمع كبير وهو عظيم العشيرة ، وهم دون السادة فإن كبيراً يطلق على راس العائلة فيقول المرء لأبيه : كبيري ، ولذلك قوبل قولهم : { يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] بقولهم : { أطعنا سادتنا وكبراءنا } . وجملة { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } خبر مستعمل في الشكاية والتذمر ، وهو تمهيد لطلب الانتصاف من سادتهم وكبرائهم . فالمقصود الإِفضاء إلى جملة { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } . ومقصود من هذا الخبر ايضاً الاعتذار والتنصل من تَبِعة ضلالهم بأنهم مغرورون مخدوعون ، وهذا الاعتذار مردود عليهم بما أنطقهم الله به من الحقيقة إذ قالوا : { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } فيتجه عليهم أن يقال لهم : لماذا أطعتموهم
حتى يغروكم ، وهذا شأن الدهماء أن يسوِّدوا عليهم من يُعجبون بأضغاث أحلامه ، ويُغَرُّون بمعسول كلامه ، ويسيرون على وقع أقدامه ، حتى إذا اجتنوا ثمار أكمامه ، وذاقوا مراراة طعمه وحرارة أُوامه ، عادوا عليه باللائمة وهم الأحقاء بملامه . وحرف التوكيد لمجرد الاهتمام لا لرد إنكار ، وتقديم قولهم : { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } اهتمام بما فيه من تعليل لمضمون قولهم : { فأضلونا السبيلا } لأن كبراءهم ما تأتَّى لهم إضلالهم إلا بتسبب طاعتهم العمياء إياهم واشتغالهم بطاعتهم عن النظر والاستدلال فيما يدعونهم إليه من فساد ووخامة مغبّة . وبتسبب وضعهم أقوالَ سادتهم وكبرائهم موضع الترجيح على ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم .
وانتصل { السبيلا } على نزع الخافض لأن أضل لا يتعدّى بالهمزة إلا أن مفعول واحد قال تعالى : { لقد أضلني عن الذكر } [ الفرقان : 29 ] . وظاهر « الكشاف » أنه يتعدّى إلى مفعولين ، فيكون ( ضل ) المجرد يتعدى إلى مفعول واحد .
تقول : ضللت الطريق ، و( ضل ) يتعدى بالهمزة إلى مفعولين . وقاله ابن عطية . والقول في ألف { السبيلا } كالقول في ألف { الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال الكافرون يوم القيامة في جهنم: ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة وكبراءنا في الشرك "فَأَضَلّونا السّبِيلَ "يقول: فأزالونا عن محجة الحقّ، وطريق الهدى، والإيمان بك، والإقرار بوحدانيتك، وإخلاص طاعتك في الدنيا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم لاذوا بالتشكي من كبرائهم في أنهم أضلوهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وقالوا} لما لم ينفعهم شيء متبردين من الدعاء على من أضلهم بما لا يبرئ عليلاً ولا يشفي غليلاً: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا، وأسقطوا أداة النداء على عادة أهل الخصوص بالحضرة زيادة في الترقق بإظهار أنه لا واسطة لهم إلا ذلهم وانكسارهم الذي عهد في الدنيا أنه الموجب الأعظم لإقبال الله على عبده كما أن المثبت لأداة البعد بقوله:"يا الله" مشير إلى سفول منزلته وبعده بكثرة ذنوبه وغفلته تواضعاً منه لربه لعله يرفع ذلك البعد عنه.
ولما كانوا يظنون أن أتباعهم للكبراء غير ضلال، فبان لهم خلاف ذلك، أكدوا قولهم لذلك وللإعلام بأنهم بذلوا ما كان عندهم من الجهل فصاروا الآن على بصيرة من أمرهم: {إنا أطعنا سادتنا} وقرئ بالجمع بالألف والتاء جمعاً سالماً للجمع المكسر {وكبراءنا فأضلونا} أي فتسبب عن ذلك، أنهم أضلونا بما كان لهم من نفوذ الكلمة {السبيلا} كما هي عادة المخطئ في الإحالة على غيره بما لا ينفعه، وقراءة من أثبت الألف مشيرة إلى أنه سبيل واسع جداً واضح، وأنه مما يتلذذ بذكره ويجب تفخيمه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا} الذين كانوا يسيطرون على مقدراتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، ويملكون الضغط علينا فكرياً وعملياً، في ما يضلِّلونا به من العقيدة، وما ينحرفون بنا من الخط، فنخضع لضغوطهم كما يخضع كل ضعيفٍ لأيّ قويٍّ، من خلال حاجاته الموجودة عنده، ونقاط ضعفه المتحكمة فيه.
{فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} فانحرفنا عن صراطك المستقيم، وابتعدنا عما أردتنا أن نسير فيه.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -بيان أن طاعة السادة والكبراء في معاصي الله ورسوله يعود بالوبال على فاعليه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(السادة) جمع «سيّد»، وهو المالك العظيم الذي يتولّى إدارة المدن المهمّة أو الدول، و «الكبراء» جمع «كبير» وهو الفرد الكبير سواء من ناحية السنّ، أو العلم، أو المركز الاجتماعي وأمثال ذلك؛ وبهذا فإنّ السادة إشارة إلى رؤساء البلاد العظام، والكبراء هم الذين يتولّون إدارة الاُمور تحت إشراف اُولئك السادة، ويعتبرون معاونين ومشاورين لهم، وكأنّهم يقولون: إنّنا قد جعلنا طاعة السادة محل طاعة الله، وطاعة الكبراء مكان طاعة الأنبياء، فابتلينا بأنواع الانحرافات والتعاسة والشقاء.