وبذلك يكون موسى قد أتى بالبينة التي تدعو فرعون وملأه إلى الإيمان به فهل آمنوا ؟ كلا إنهم ما آمنوا بل استمروا في ضلالهم ، وحكى لنا القرآن أن حاشية فرعون السيئة ، وأصحاب الجاه والغنى في دولته غاظهم ما جاء به موسى ، يدل على ذلك قوله - تعالى - { قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } .
أى : قال الأشراف من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ، أى : راسخ في علم السحر ، ماهر فيه .
جرت جملة : { قال الملأ } على طريقة الفصل لأنها جرت في طريق المحاورة الجارية بين موسى وبين فرعون وملئه فإنه حوار واحد .
وتقدم الكلام على الملإِ آنفاً في القصص الماضية ، فملأ قوم فرعون هم سادتهم وهم أهل مجلس فرعون ومشورته ، وقد كانت دعوة موسى أول الأمر قاصرة على فرعون في مجلسه فلم يكن بمرأى ومسمع من العامة لأن الله تعالى قال في آية أخرى { اذهبا إلى فرعون إنه طغى } [ طه : 43 ] وقال في هذه الآية : { إلى فرعون وملائه } [ الأعراف : 103 ] وإنما أشهرت دعوته في المرة الآتية بعد اجتماع السحرة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال الملأ}، وهم الكبراء، {من قوم فرعون إن هذا}، يعني موسى، {لساحر عليم}، يعني عالم بالسحر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت الجماعة من رجال قوم فرعون والأشراف منهم:"إن هذا"، يعنون موسى صلوات الله عليه، "لَساحِرٌ عَلِيمٌ "يعنون: أنه يأخذ بأعين الناس بخداعه إياهم حتى يخيل إليهم العصا حية والآدم أبيض، والشيء بخلاف ما هو به. وقوله "عَليمٌ "يقول: ساحر عليم بالسحر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا أراد اللهَ هوان عبد لا يزيد الحقَّ حُجَّةً إلا ويزيد لذلك المُبْطِل فيه شبهةً؛ فكلَّما زاد موسى -عليه السلام- في إظهار المعجزات ازدادوا حيرةً في التأويلات.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ}... فإن قلت: قد عزى هذا الكلام إلى فرعون في سورة الشعراء، وأنه قاله للملأ وعُزي ههنا إليهم، قلت قد قاله هو وقالوه هم، فحكى قوله ثم وقولهم ههنا: أو قاله ابتداء فتلقته منه الملأ، فقالوه لأعقابهم. أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، كما يفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصة ثم تبلغه الخاصة العامة. والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدائن حاشرين يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ}.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وكان السحر إذ ذاك في أعلى المراتب، فلما رأوا انقلاب العصا ثعباناً والأدماء بيضاء وأنكروا النبوة ودافعوه عنها قصدوا ذمه بوصفه بالسحر وحطّ قدره إذ لم يمكنهم في ظهور ما ظهر على يده نسبة شيء إليه غير السحر وبالغوا في وصفه بأن قالوا: {عليم} أي بالغ الغاية في علم السّحر وخدعه وخيالاته وفنونه وأكثر استعمال لفظ هذا إذا كان من كلام الكفار في التنقص والاستغراب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتى بالبيان وأقام واضح البرهان، اقتضى الحال السؤال عما أبرزوه من المقال في جوابه فقال: {قال الملأ} أي الأكابر {من قوم فرعون} ما تلقفوه من فرعون واحداً بعد واحد، يلقيه أكبرهم إلى أصغرهم {إن هذا لساحر} أي فهذا الذي رأيتموه أيها الناس من تخييله ما لا حقيقة له، فلا تبادروا إلى متابعته. ولما كان ذلك خارجاً عما ألفوه من السحرة قالوا: {عليم} أي بما هم فيه، بالغ في علمه إلى حد عظيم، فلذلك جاء ما رأيتم منه فوق العادة،
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كلا! إن الطاغوت لا يستسلم هكذا من قريب. ولا يسلم ببطلان حكمه وعدم شرعية سلطانه بمثل هذه السهولة! وفرعون وملؤه يخطئون فهم مدلول هذه الحقيقة الهائلة التي يعلنها موسى. بل إنهم ليعلنونها صريحة. ولكن مع تحويل الأنظار عن دلالتها الخطيرة، باتهام موسى بأنه ساحر عليم: (قال الملأ من قوم فرعون: إن هذا لساحر عليم).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد كانت دعوة موسى أول الأمر قاصرة على فرعون في مجلسه فلم يكن بمرأى ومسمع من العامة لأن الله تعالى قال في آية أخرى {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} [طه: 43] وقال في هذه الآية: {إلى فرعون وملائه} [الأعراف: 103] وإنما أشهرت دعوته في المرة الآتية بعد اجتماع السحرة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أفزع فرعون هذا، ولم يتكلم، ولكن تكلمت الحاشية متحدية الحق والرسالة، تأكيدا لولائهم، وتشجيعا على الإنكار، وما كان لهم أن يتكلموا عن بياض اليد؛ لأنه فوق ما يستطيعون وما يعلمون، وحاولوا إبطال الأولى؛ لأنها تتعلق بنوع علم عندهم، والعاجز عن رد الحجة يختار ما يحسبه أسهل في الاستدلال عليه فيتكلم فيه، ليشغل الناس عن الآخر، وما كان كلام الحاشية إلا تشجيعا على الإنكار؛ لأنهم طوعوا أنفسهم على العيش بجوار فرعون، وقد رأوا دعوة موسى اعتداء على ألوهية فرعون في زعمهم، فسبقوه إلى الإنكار مرضاة له، حتى رموه في البحر {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بدء المواجهة: في هذه الآيات جاء الحديث عن أوّل ردّ فعل لفرعون وجهازه في مقابل دعوة موسى (عليه السلام) ومعجزاته. الآية الأُولى تَذكر عن ملأ فرعون أنّهم بمجرّد مشاهدتهم لأعمال موسى الخارقة للعادة اتهموه بالسحر، وقالوا: هذا ساحر عليم ماهر في سحره: (قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحر عليم). ولكن يستفاد من آيات سورة الشعراء الآية (34) أن هذا الكلام قاله فرعون حول موسى: (قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم). ولكن لا منافاة بين هاتين الآيتين، لأنّه لا يبعد أن يكون فرعون قال هذا الكلام في البداية، وحيث أن عيون الملأ كانت متوجهة إليه، ولم يكن لهذا الملأ المتملق المتزلف هدف إلاّ رضى رئيسه وسيده، وما ينعكس على محياه، وما توحي به إشارته، كرّر هو أيضاً ما قاله الرّئيس، فقالوا: أجل، إن هذا لساحر عليم. وهذا السلوك لا يختص بفرعون وحواشيه، بل هو دأب جميع الجبارين في العالم وحواشيهم.