ثم ذكر الحال التي أوصلتهم إلى العذاب ، وقطعت عنهم الرحمة فقال : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله الصالحة ، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة ، والتوسل إليه بربوبيته ، ومنته عليهم بالإيمان ، والإخبار بسعة رحمته ، وعموم إحسانه ، وفي ضمنه ، ما يدل على خضوعهم وخشوعهم ، وانكسارهم لربهم ، وخوفهم ورجائهم .
وقوله - تعالى - { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ . . . } تعليل لزجرهم عن طلب الخروج أى : اخسأوا فى النار ولا تكلمون ، لأنه كان فى الدنيا فريق كبير من عبادى المؤمنين يقولون بإخلاص ورجاء : { رَبَّنَآ آمَنَّا } بك واتبعنا رسلك { فاغفر لَنَا } ذنوبنا { وارحمنا } برحمتك التى وسعت كل شىء { وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين } .
( إنه كان فريق من عبادي يقولون : ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين . فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري ، وكنتم منهم تضحكون ) . .
وكذلك لم يكن جرمكم أنكم كفرتم فحسب ، واقتصرتم على أنفسكم بالكفر وهو جرم عظيم ؛ إنما بلغ بكم السفه والتوقح أن تسخروا ممن آمنوا ، وراحوا يرجون غفران ربهم ورحمته ؛ وأن تضحكوا منهم حتى ليشغلكم هذا الهذر عن ذكر الله ، ويباعد بينكم وبين التدبر والتفكر في دلائل الإيمان المبثوثة في صفحات الوجود . . فانظروا اليوم أين مكانكم ومكان أولئك الذين كنتم تسخرون منهم وتضحكون :
جملة { إنه كان فريق من عبادي } إلى آخرها استئناف قصد منه إغاظتهم بمقابلة حالهم يوم العذاب بحال الذين أنعم الله عليهم ، وتحسيرُهم على ما كانوا يعاملون به المسلمين .
والإخبار في قوله : { إنه كان فريق من عبادي } إلى قوله : { سخرياً } مستعمل في كون المتكلم عالماً بمضمون الخبر بقرينة أن المخاطب يعلم أحوال نفسه . وتأكيد الخبر ب ( إن ) وضمير الشأن للتعجيل بإرهابهم .
وجملة { إنى جزيتهم } خبر ( إن ) الأولى لزيادة التأكيد . وتقدم نظيره في قوله : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } في سورة الكهف ( 30 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنه كان فريق من عبادي} المؤمنين {يقولون ربنا ءامنا} يعني: صدقنا بالتوحيد {فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: كانت جماعة من عبادي، وهم أهل الإيمان بالله، يقولون في الدنيا:"رَبّنا آمَنّا" بك وبرسلك، وما جاءوا به من عندك.
"فاغْفِرْ لَنا "ذُنُوبَنا "وَارْحْمنا" وأنت خير من رحم أهل البلاء، فلا تعذّبنا بعذابك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم يقول الله تعالى لهؤلاء الكفار على وجه التهجين لهم والتوبيخ "إنه كان فريق من عبادي "يعني المؤمنين في دار الدنيا "يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الراحمين" أي يدعون بهذه الدعوات، عبادة لله، وطلبا لما عنده من الثواب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الحقُّ -سبحانه- ينتقم من أعدائه بما يطيِّبُ به قلوبَ أوليائه، وتلك خصومةُ الحق، فيقول: قد كان قومٌ من أوليائي يُفْصِحون بمدحي وثناي، ويتصفون بمدحي وإطرائي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذه الآية كلها مما يقال للكفار على جهة التوبيخ، و «الفريق» المشار إليه كل مستضعف من المؤمنين يتفق أن تكون حاله مع كفار في مثل هذه الحال، ونزلت الآية في كفار قريش مع صهيب وبلال وعمار ونظرائهم ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديماً وبقية الدهر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الشماتة أسر السرور للشامت وأخزى الخزي للمشموت به، علل ذلك بقوله: {إنه كان} أي كوناً ثابتاً {فريق} أي ناس استضعفتموهم فهان عليكم فراقهم لكم وفراقكم لهم وظننتم أنكم تفرقون شملهم {من عبادي} أي الذين هم أهل للإضافة إلى جنابي لخلوصهم عن الأهواء {يقولون} مع الاستمرار: {ربنا} أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق {آمنا} أي أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل لوجوب ذلك علينا لأمرك لنا به. ولما كان عظم المقام موجباً لتقصير العابد، وكان الاعتراف بالتقصير جابراً له قالوا: {فاغفر لنا} أي استر بسبب إيماننا عيوبنا التي كان تقصيرنا بها {وارحمنا} أي افعل بنا فعل الراحم من الخير الذي هو على صورة الحنو والشفقة والعطف. ولما كان التقدير: فأنت خير الغافرين، فإنك إذا سترت ذنباً أنسيته لكل أحد حتى للحفظة، عطف عليه قوله: {وأنت خير الراحمين} لأنك تخلص مَنْ رحمته من كل شقاء وهوان، بإخلاص الإيمان، والخلاص من كل كفران
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
أي إن فريقا من عبادي ممن كان يؤمن بالله واليوم الآخر في الدنيا يقولون: ربنا آمنا بك وبرسلك وبما جاؤوا به من لدنك، فاستر زلاتنا، وآمن روعاتنا، ولا تخزنا يوم العرض، ولا تعذبنا بعذابك، فإنك أرحم من رحم أهل البلاء.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسل إليه بربوبيته، ومنته عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم إحسانه، وفي ضمنه، ما يدل على خضوعهم وخشوعهم، وانكسارهم لربهم، وخوفهم ورجائهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكذلك لم يكن جرمكم أنكم كفرتم فحسب، واقتصرتم على أنفسكم بالكفر وهو جرم عظيم؛ إنما بلغ بكم السفه والتوقح أن تسخروا ممن آمنوا، وراحوا يرجون غفران ربهم ورحمته.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ربنا آمنا}، أي صدقنا وأذعنا، وصرنا ممن اتبعوا رسولك، {فَاغْفِرْ لَنَا}. وشأن المؤمن الضارع أن يحسب أن ذنوبه قبل حسناته، فيطلب الغفران قبل طلب الجزاء على الطاعة، لأنه يحس أنه لم يقم بحق الله تعالى عليه، حتى يطالب بحق له، {ارحمنا}، أي امنن علينا بدوام الهداية، وأدخلنا في رحمتك، دعوا الله تعالى أن يرحمهم ولم يدعوه بأن يكافئهم، بل يحسبون كشأن الأبرار أن ما كان يجزيهم به من خير فهو فضل رحمته ورضوانه، ولا يحسبون أنهم عملوا ما يستحقون عليه جزاء، {وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}، أي وأنت الذي ترحم رحمة ليس فوقها رحمة يا رب العالمين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هؤلاء الذين عاشوا الإيمان في عقولهم وفي قلوبهم، وحوّلوه إلى خط عمليّ في حياتهم، وانطلقوا في ممارساتهم العامة والخاصة، في حذر الإنسان المؤمن الخائف، الذي يعبد الله ويطيعه، وهو يخشى أن لا يتقبل الله منه، أو أن يقصر في أداء واجبه نحوه، فلذلك يدعو الله بالغفران والرحمة لنفسه، ليستثير رحمة الله التي وسعت كل شيء، في ما يكون قد أخطأ فيه، وفي ما يخاف فيه ذلك.