{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } أي : يقوم الناس لرب العالمين ويردون القيامة عيانا ، يومئذ { يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } أي : ييأسون من كل خير . وذلك أنهم ما قدموا لذلك اليوم إلا الإجرام وهي الذنوب ، من كفر وشرك ومعاصي ، فلما قدموا أسباب العقاب ولم يخلطوها بشيء من أسباب الثواب ، أيسوا وأبلسوا وأفلسوا وضل عنهم ما كانوا يفترونه ، من نفع شركائهم وأنهم يشفعون لهم ، ولهذا قال : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ }
ثم ذكر - سبحانه - حال المجرمين يوم القيامة فقال : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون } و { يُبْلِسُ } من الإِبلاس بمعنى السكوت والذهول وانقطاع الحجة ، يقال : أبلس الرجل ، إذا وقف ساكتا حائرا مبهوتا لا يجد ينقذه مما هو فيه من بلاء .
أى : ويوم تقوم الساعة ، ويشاهد المجرمون أهوالها ، يصابون بالذهوب والحيرة والسكوت المطبق ، لانقطاع حجتهم ، وشدة حزنهم وهمهم ، ويأسهم من النجاة يأسا تاما .
( ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ، ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين . ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون . وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ) . .
فها هي ذي الساعة التي يغفل عنها الغافلون ، ويكذب بها المكذبون . ها هي ذي تجيء ، أو ها هي ذي تقوم ! وهؤلاء هم المجرمون حائرين يائسين ، لا أمل لهم في نجاة ، ولا رجاء لهم في خلاص .
عطف على جملة { ثم إليه ترجعون } [ الروم : 11 ] تبييناً لحال المشركين في وقت ذلك الإرجاع كأنه قيل : ثم إليه ترجعون ويومئذ يُبلس المجرمون . وله مزيد اتصال بجملة { ثم كان عاقبة الذين أساءوا السُّوأى } [ الروم : 10 ] ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال ويومئذ يُبلس المجرمون أو يومئذ تُبلسون ، أي ويوم ترجعون إليه يبلس المجرمون ، فعدل عن تقدير الجملة المضاف إليها { يوم التي يدل عليها إليه ترجعون } [ الروم : 11 ] بذكر جملة أخرى هي في معناها لتزيد الإرجاع بياناً أنه إرجاع الناس إليه يوم تقوم الساعة ، فهو إطناب لأجل البيان وزيادة التهويل لما يقتضيه إسناد القيام إلى الساعة من المباغتة والرعب . ويدل لهذا القصد تكرير هذا الظرف في الآية بعدها بهذا الإطناب . وشاع إطلاق { الساعة } على وقت الحشر والحساب . وأصل الساعة : المقدار من الزمن ، ويتعين تحديده بالإضافة أو التعريف .
والإبلاس : سكون بحَيْرة . يقال : أبلس ، إذا لم يجد مخرجاً من شدة هو فيها . وتقدم عند قوله تعالى { إذا هم فيه مبلسون } في سورة المؤمنين ( 77 ) .
والمجرمون : المشركون ، وهم الذين أجريت عليهم ضمائر الغيبة وضمائر الخطاب بقرينة قوله { ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء } .
والإظهار في مقام الإضمار لإجراء وصف الإجرام عليهم وكان مقتضى الظاهر أنه يقال : تبلسون ، بالخطاب أو بياء الغيبة . ووصفوا بالإجرام لتحقير دين الشرك وأنه مشتمل على إجرام كبير . وقد ذكر أحد أسباب الإبلاس وأعظمها حينئذ وهو أنهم لم يجدوا شفعاء من آلهتهم التي أشركوا بها وكانوا يحسبونها شفعاء عند الله ، فلما نظروا وقلبوا النظر فلم يجدوا شفعاء خابوا وخسئوا وأبلسوا ، ولهم أسباب خيبة أخرى لم يتعلق الغرض بذكرها . وأما ما ينالهم من العذاب فذلك حالة يأس لا حالة إبلاس . و { مِن تبعيضية ، وليس الكلام من قبيل التجريد .
ونفيُ فعل { يكن } ب { لم } التي تخلص المضارع للمضي للإشارة إلى تحقيق حصول هذا النفي مثل قوله { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويوم تقوم الساعة} يعني يوم القيامة {يبلس} يعني ييأس {المجرمون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويوم تجِيء الساعة التي فيها يفصل الله بين خلقه، وينشر فيها الموتى من قبورهم، فيحشرهم إلى موقف الحساب "يُبْلِسُ المُجْرِمُونَ "يقول: ييأس الذين أشركوا بالله، واكتسبوا في الدنيا مساوئ الأعمال من كلّ شرّ، ويكتئبون ويتندمون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...قال بعضهم: الإبلاس: هو الفضيحة، أي يفتضحون بما عملوا. وقال بعضهم: المبلس: كل منقطع رجاؤه ساكت كالمتحير في أمره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل: تنقطع حججهم، فالإبلاس التحير عند لزوم الحجة، فالمجرم يبلس يوم القيامة، لأنه تظهر جلائل آيات الآخرة التي تقع عندها على الضرورة فيتحير أعظم الحيرة...
في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم، والإبلاس: يأس مع حيرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر الرجوع، أتبعه بعض أحواله فقال: {ويوم تقوم الساعة} سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما فيهم من العظماء والكبراء والرؤساء.
{يبلس} أي يسكت ويسكن يأساً وتحيراً على غاية الذل -بما أشار إليه تذكير الفعل مع التجدد والاستمرار بما أومأ إليه المضارع.
{المجرمون} الذين وصلوا من الدنيا ما من حقه أن يقطع لفنائه، وقطعوا من أسباب الآخرة ما من حقه أن يوصل لبقائه، وكانوا في غاية اللبس في الجدل ومعرفة كل ما يغيظ الخصم من القول والفعل والتمايل والتضاحك عند سكوت الخصم تعجباً من جريانهم في هذيانهم سروراً منهم بإسكاته ليظن بعض من رآه أنه انقطع وأن الحجة لهم...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
قال الراغب: الإبلاس: الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فها هي ذي الساعة التي يغفل عنها الغافلون، ويكذب بها المكذبون. ها هي ذي تجيء، أو ها هي ذي تقوم! وهؤلاء هم المجرمون حائرين يائسين، لا أمل لهم في نجاة، ولا رجاء لهم في خلاص...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {ثم إليه ترجعون} [الروم: 11] تبييناً لحال المشركين في وقت ذلك الإرجاع كأنه قيل: ثم إليه ترجعون ويومئذ يُبلس المجرمون. وله مزيد اتصال بجملة {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السُّوأى...، وكان مقتضى الظاهر أن يقال ويومئذ يُبلس المجرمون أو يومئذ تُبلسون، أي ويوم ترجعون إليه يبلس المجرمون، فعدل عن تقدير الجملة المضاف إليها {يوم التي يدل عليها إليه ترجعون...بذكر جملة أخرى هي في معناها لتزيد الإرجاع بياناً أنه إرجاع الناس إليه يوم تقوم الساعة، فهو إطناب لأجل البيان وزيادة التهويل لما يقتضيه إسناد القيام إلى الساعة من المباغتة والرعب. ويدل لهذا القصد تكرير هذا الظرف في الآية بعدها بهذا الإطناب. وشاع إطلاق {الساعة} على وقت الحشر والحساب. وأصل الساعة: المقدار من الزمن، ويتعين تحديده بالإضافة أو التعريف...