ثم بين - سبحانه - سوء مصير هؤلاء الكافرين فقال : { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا } أى : لهم عذاب شديد في الحياة الدنيا ، ينزله الله - تعالى - بهم تارة عن طريق القوارع والمصائب التي يرسلها عليهم ، وتارة عن طريق الهزائم التي يوقعها بهم المؤمنون ، هذا في الدنيا { وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ } من عذاب الدنيا لشدته ودوامه { وَمَا لَهُم مِّنَ الله } - تعالى - ومن عذاب الآخرة { مِن وَاقٍ } أى : من حائل يحول بينهم وبين عذابه - سبحانه - .
والنهاية الطبيعية لهذه القلوب المنتكسة هي العذاب :
( لهم عذاب في الحياة الدنيا ) .
إن أصابتهم قارعة فيها ، وإن حلت قريبا من دارهم فهو الرعب والقلق والتوقع . وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب ، وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب . ومواجهة كل حادث بلا إدراك للحكمة الكبرى وراء الأحداث عذاب . . .
ويتركه هنا بلا تحديد للتصور والتخيل بلا حدود .
يحميهم من أخذه ، ومن نكاله . فهم معرضون بلا وقاية لما ينزله بهم من عذاب . .
استئناف بياني نشأ عن قوله : { ومن يضلل الله فما له من هاد } [ الرعد : 33 ] لأن هذا التبديد يومىء إلى وعيد يسال عنه السامع . وفيه تكملة للوعيد المتقدم في قوله : { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة } مع زيادة الوعيد بما بعد ذلك في الدار الآخرة .
وتنكير { عذاب } للتعظيم ، وهو عذاب القتل والخزي والأسر . وإضافة { عذاب } إلى { الآخرة } على معنى { في } .
و { من } الداخلة على اسم الجلالة لتعدية { واق } . و { من } الداخلة على { واق } لتأكيد النفي للتنصيص على العموم .
والواقي : الحائل دون الضُرّ . والوقاية من الله على حذف مضاف ، أي من عذابه بقرينة ما ذكر قبله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره، لهؤلاء الكفار الذين وَصَف صفَتَهم في هذه السورة، عذابٌ في الحياة الدنيا بالقتل والإسار والآفاتِ التي يُصيبهم الله بها (ولعذاب الآخرة أشق)، يقول: ولتعذيبُ الله إياهم في الدار الآخرة أشدُّ من تعذيبه إيَّاهم في الدنيا...
وقوله: (وما لهم من الله من وَاقٍ)، يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء الكفار من أحدٍ يقيهم من عذاب الله إذا عذَّبهم، لا حَمِيمٌ ولا وليٌّ ولا نصيرٌ، لأنه جل جلاله لا يعاده أحدٌ فيقهره، فيخَلَّصه من عذابه بالقهر ولا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه، وليس يأذن لأحد في الشفاعة لمن كفر به فمات على كفره قبل التَّوبة منه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ} وما لهم من حافظ من عذابه. أو ما لهم من جهته واق من رحمته...
واعلم أنه تعالى لما أخبر عنهم بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق، وأنه لا دافع لهم عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لهم عذاب في الحياة الدنيا). إن أصابتهم قارعة فيها، وإن حلت قريبا من دارهم فهو الرعب والقلق والتوقع. وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب، وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب. ومواجهة كل حادث بلا إدراك للحكمة الكبرى وراء الأحداث عذاب... (ولعذاب الآخرة أشق).. ويتركه هنا بلا تحديد للتصور والتخيل بلا حدود...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وعذاب الدنيا يبتدئ من ذات أنفسهم، وهو ضلال الفكر واضطرابه وعدم استقامة أنفسهم، فإن استقامة العقل والنفس نعمة واطمئنان واستقرار وضد ذلك عذاب، لا ريب فيه، وعذاب الدنيا باللجاجة في الباطل، والبراهين ساطعة، والأدلة قائمة، ثم من عذاب الدنيا الخزيان والذل، وضر الذلة، ومن عذاب الدنيا قتلهم بسيف الحق، كما كان في بدر والأحزاب، بل أحد الذين رجعوا فيها من الغنيمة بالإياب، وقد يكون عذاب الدنيا بآية من آية. أما عذاب الآخرة فهو أشق من عذاب الدنيا، ويواجهون الله، {وما لهم من الله من واق}، فالله لا ينظر إليهم ولا يكلمهم، ويبدو لهم جهلهم، وضلالهم، ثم بعد ذلك جهنم بالتي جعلها مثوى الكافرين...