وتحولت النار إلى برد وسلام على إبراهيم ، وأراد الكافرون به كيدا ، أى إحراقا بالنار " فجعلناهم " بإرادتنا وقدرتنا " الأخسرين " حيث لم يصلوا إلى ما يريدون ، ولم يحققوا النصر لآلهتهم ، بل رد الله - تعالى - كيدهم فى نحورهم .
وقال - سبحانه - { فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين } بالإطلاق لتشمل خسارتهم كل خسارة سواء أكانت دنيوية أم أخروية .
وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات آثارا منها : أن إبراهيم - عليه السلام - حين جىء به إلى النار ، قالت الملائكة : يا ربنا ما فى الأرض أحد يعبدك سوى إبراهيم ، وأنه الآين يحرف فأذن لنا فى نصرته ! !
فقال - سبحانه - : إن استغاث بأحد منكم فلينصره ، وإن لم يدع غيرى فأنا أعلم به ، وأنا وليه ، فخلوا بينى وبينه ، فهو خليلى ليس لى خليل غيره .
فأتى جبريل - عليه السلام - إلى إبراهيم ، فقال له : ألك حاجة ؟ فقال إبراهيم : أما إليك فلا ، وأما إلى الله فنعم ! !
فقال له جبريل : فلم لا تسأله ؟ فقال إبراهيم - عليه السلام - : حسبى من سؤالى علمه بحالى .
( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ) . .
وقد روي أن الملك المعاصر لإبراهيم كان يلقب " بالنمرود " وهو ملك الآراميين بالعراق . وأنه قد أهلك هو والملأ من قومه بعذاب من عند الله . تختلف الروايات في تفصيلاته ، وليس لنا عليها من دليل . المهم أن الله قد أنجى إبراهيم من الكيد الذي أريد به ، وباء الكائدون له بخسارة ما بعدها خسارة ( فجعلناهم الأخسرين )هكذا على وجه الإطلاق دون تحديد !
تسمية عزمهم على إحراقه كيْداً يقتضي أنهم دبروا ذلك خفية منه . ولعلّ قصدهم من ذلك أن لا يفرّ من البلد فلا يتم الانتصار لآلهتهم .
والأخسر : مبالغة في الخاسر ، فهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة .
وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر ، وهو قصرٌ للمبالغة كأنّ خسارتهم لا تدانيها خسارة وكأنهم انفردوا بوصف الأخسرين فلا يصدق هذا الوصف على غيرهم . والمراد بالخسارة الخيبة . وسميت خيبتُهم خسارةً على طريقة الاستعارة تشبيهاً لخيبة قصدهم إحراقَه بخيبة التاجر في تجارته ، كما دل عليه قوله تعالى : { وأرادوا به كيداً } ، أي فخابوا خيبة عظيمة . وذلك أن خيبتهم جُمع لهم بها سلامةُ إبراهيم من أثر عقابهم وإن صار ما أعَدوه للعقاب معجزة وتأييداً لإبراهيم عليه السلام .
وأما شدة الخسارة التي اقتضاها اسم التفضيل فهي بما لحقهم عقب ذلك من العذاب إذ سلط الله عليهم عذاباً كما دلّ عليه قوله تعالى في [ سورة الحج : 44 ] { فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير } وقد عَدّ فيهم قومَ إبراهيم ، ولم أرَ من فسر ذلك الأخذ بوجه مقبول . والظاهر أن الله سلّط عليهم الأشوريين فأخذوا بلادهم ، وانقرض ملكهم وخلفهم الأشوريون ، وقد أثبت التاريخ أن العيلاميين من أهل السوس تسلّطوا على بلاد الكلدان في حياة إبراهيم في حدود سنة 2286 قبل المسيح .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وأرَادُوا بِهِ كَيْدا" يقول تعالى ذكره: وأرادوا بإبراهيم كيدا، "فَجَعَلْناهُمُ الأخْسَرِينَ "يعني الهالكين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الكيد هو الأخذ من حيث الأمن. فجائز أن يكونوا كادوه أن حبسوه في موضع، ثم جمعوا عليه الحطب من غير أن علم هو ذلك، ثم أوقدوا عليه النار، أو أن أخذوه مخافضة، فجعلوه في المِنْجنِيق، ثم رموه في النار على ما قاله أهل التأويل، أو أن يكونوا كادوه كيدا آخر سوى ذلك لم يذكر، فنحن لا نعلم ذلك...
: {فجعلناهم الأخسرين} لا شك أنهم في الآخرة من الأخسرين، وأما خسرانهم في الدنيا فلا نعلم ما ذلك الخسران، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فجعلهم الله "الأخسرين "يعني بتأييد إبراهيم وتوفيقه، ومنع النار من إحراقه حتى خسروا وتبين كفرهم وضلالهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين، غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت، وفزعوا إلى القوّة والجبروت، فنصره وقوّاه.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{فجعلناهم الأخسرين} أخسر من كل خاسر لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل وإبراهيم على الحق، وموجبا لمزيد درجته واستحقاقهم أشد العذاب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قدم ما نبه على شدة الاهتمام به لإفهامه أنه حكم بسلامته من كيدهم عند همهم به فكيف بما بعده! قال عاطفاً على ما تقديره: فألقوه فيها: {وأرادوا به كيداً} أي مكراً بإضراره بالنار وبعد خروجه منها {فجعلناهم} أي بما لنا من الجلال.
ولما كانوا قد أرادوا بما صنعوا له من العذاب أن يكون أسفل منهم أهل ذلك الجمع، وكان السياق لتحقيق أمر الساعة الذي هو مقصود السورة، وكان الصائر إليها المفرط فيها بالتكذيب بها قد خسر خسارة لا جبر لها لفوات محل الاستدراك، قال: {الأخسرين} لأن فضيحتهم في الدنيا الموجبة للعذاب في الأخرى كانت بنفس فعلهم الذي كادوه به...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وفي هذا القصص من العبرة: أن الجهاد لنصرة الحق والفضيلة فيه الخير كل الخير، وأنه مهما صادف المرء فيه من آلام وأهوال فهي هينة لينة، فلنجاهد إذا مثل ما جاهد إبراهيم، فإن متنا أو قتلنا فإن ما يصيبنا في سبيل الحق يكون لنا عزا وشرفا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
المهم أن الله قد أنجى إبراهيم من الكيد الذي أريد به، وباء الكائدون له بخسارة ما بعدها خسارة (فجعلناهم الأخسرين) هكذا على وجه الإطلاق دون تحديد!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تسمية عزمهم على إحراقه كيْداً يقتضي أنهم دبروا ذلك خفية منه. ولعلّ قصدهم من ذلك أن لا يفرّ من البلد فلا يتم الانتصار لآلهتهم. والأخسر: مبالغة في الخاسر، فهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة. وتعريف جزأي الجملة يفيد القصر، وهو قصرٌ للمبالغة كأنّ خسارتهم لا تدانيها خسارة، وكأنهم انفردوا بوصف الأخسرين فلا يصدق هذا الوصف على غيرهم. والمراد بالخسارة الخيبة...
وذلك أن خيبتهم جُمع لهم بها سلامةُ إبراهيم من أثر عقابهم وإن صار ما أعَدوه للعقاب معجزة وتأييداً لإبراهيم عليه السلام. وأما شدة الخسارة التي اقتضاها اسم التفضيل فهي بما لحقهم عقب ذلك من العذاب إذ سلط الله عليهم عذاباً كما دلّ عليه قوله تعالى في [سورة الحج: 44] {فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير} وقد عَدّ فيهم قومَ إبراهيم.